كتب نايف عازار في “نداء الوطن”:
تعيش منطقة الشرق الأوسط برمّتها على إيقاع الحروب الإسرائيلية اللامتناهية التي أطلقت صفارة بدايتها عملية “طوفان الأقصى”. وإذا كانت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وضعت أوزارها نسبيًا، فإن “شهية” تل أبيب العسكرية لا تزال مفتوحة على مصراعيها، خصوصًا على لبنان، حيث لا يزال “حزب اللّه” يؤرق صناع القرار في الدولة العبرية، رغم الوهن الشديد الذي أصابه من جرّاء الحرب الأخيرة، التي أعقبت سرديّة مساندته حركة “حماس” في قطاع غزة.
يبدو إذًا أن أصوات المافع تعلو حتى الآن على المحاولات الدبلوماسية “الطرية العود” بين بيروت وتل أبيب، وما يؤكّد أن إسرائيل تتجه إلى تجديد حربها على لبنان، زيارات مكوكيّة قادت مسؤولين أميركيين كبارًا إلى العراق، حيث لا يزال النفوذ الإيراني على قيد الحياة، لا بل عُزز هذا النفوذ في أعقاب الانتخابات التشريعية، التي أفرزت حضورًا قويًا، ناهز الـ 60 مقعدًا برلمانيًا من أصل 329، للأجنحة السياسية التي تمثل الفصائل العراقية المسلّحة، التي تدور في فلك نظام الملالي في طهران.
في الآونة الأخيرة، حطّ المبعوث الأميركي توم برّاك رحاله في “بلاد الرافدين”، ليصارح المسؤولين هناك بأن الدولة اليهودية تحضر لعملية عسكرية جديدة واسعة في لبنان، وليحذر الفصائل العراقية التي تدين بالولاء المطلق لطهران، خصوصًا “كتائب حزب اللّه”، من مغبّة التدخل في المواجهة، لأن تل أبيب وليس واشنطن ستردّ عليها حتمًا، وستوجّه إليها ضربات جوّية قاصمة، قد ترقى حتى إلى حدّ تدخل بريّ إسرائيلي على التراب العراقي.
وفي هذا السياق، ردّد دبلوماسيون غربيون أن حياد بغداد لم يعد تمنيًا أو طلبًا أميركيًا، بل أمسى شرطًا غير قابل للتفاوض يرقى إلى حدّ التحذير الشديد اللهجة، وجزموا بأن زيارة برّاك تحمل رسائل “ردعية”، بعيدًا من الدبلوماسية التقليدية الناعمة.
لا ريب في أن “بلاد الرافدين” تخضع منذ عام 2003 تاريخ الاجتياح الأميركي للعراق وإسقاط نظام صدام حسين، لنفود أميركي – إيراني مزدوج، لذلك يجهد رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، الذي عزز حضوره البرلماني في الدورة الانتخابية الأخيرة، للمواءمة بين النظام الإيراني المترهّل “وليّ نعمته” السياسية، وبين الإدارة الأميركية التي يرأسها رئيس جمهوري يسعى إلى تغيير وجه العالم والمنطقة، ولا يرضى بأنصاف الحلول. لذلك سارع مكتب السوداني إلى التخفيف من وطأة التحذير الأميركي، بوضعه زيارة برّاك في إطار بحث السبل الآيلة إلى دعم العملية السياسية في سوريا الجديدة ودعم استقرارها الأمني وازدهارها الاقتصادي، بما يعزز في الوقت عينه استقرار العراق وازدهاره.
وهنا يعتبر المراقبون أن قاطن البيت الأبيض، يحاول استمالة السوداني دبلوماسيًا، نظرًا إلى الثقل الذي يتمتع به العراق ولدوره في الترتيبات الإقليمية الجديدة التي تُعيد رسم وجه المنطقة، ولإدراك الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن للعراق أهمية جيوسياسية وازنة، تُضاف إلى علاقاته المميزة مع دول إقليمية تهمّ الولايات المتحدة، وفي مقدّمها إيران. كذلك ترنو واشنطن إلى إبعاد بغداد ما أمكن عن نفوذ طهران.
رغم النفي العراقي الضمني في البيان الحكومي الرسمي، أن يكون برّاك حمل تحذيرًا صريحًا لـ “بلاد الرافدين”، إلّا أن توقيت زيارة المبعوث الأميركي العراق يحمل في طياته بلا شك مضامين تحذيريّة، وهو أراد حمل رسالة “ردعية” ممهورة بإنذار أخير إلى صناع القرار في بغداد، ورمى في الوقت عينه إلى إسماع صدى هذه الرسالة إلى المسؤولين في بيروت، خصوصًا أن رئيس الحكومة الإسرائيلية اليمينية بنيامين نتنياهو، المتفلّت من أي ضوابط، يهوى “التفاوض تحت النار”.
ليس أدلّ على حال التخبّط التي تعصف بالحكومة العراقية، سوى إدراجها أخيرًا “حزب اللّه” في لبنان و “الحوثيين” في اليمن ضمن لوائح الإرهاب في الجريدة الرسمية العراقية، لتعود وتتحدّث الحكومة عن خطأ شاب هذه اللوائح، باعتبار أن النسخ الأصلية منها كانت مخصّصة حصرًا للكيانات المرتبطة بتنظيمي “القاعدة” و “داعش”، وأن إدراج “حزب اللّه” و “الحوثيين” كان من جرّاء خطأ في النشر قبل التنقيح، علمًا أن “جريدة الوقائع” العراقية تصدرها وزارة العدل، بعد مراجعة وتمحيص من قبل مجموعة من اللجان والوزارات المختصة، ما يجعل هامش الخطأ صغيرًا جدًا. وهنا تبرز مجدّدًا معضلة الحكومة العراقية التي أذعنت في بادئ الأمر إلى الضغوط الأميركية المهولة، من خلال خطوة إدراجها “حزب اللّه” و “أنصار الله” على لوائح الإرهاب، لتعود وتنصاع إلى ضغوط “رأس الأخطبوط” الإيراني، الحريص على من تبقى من أذرعه على قيد الحياة في المنطقة.