كتب داود رمال في “نداء الوطن”:
يتضح من مسار التطورات الأخيرة أن رفض «حزب الله» المبادرة المصرية لم يكن موقفًا منفصلًا عن حسابات إقليمية ودولية، بل حلقة في سياق سياسي أوسع تتحكم به رهانات إيرانية تعتبر اللحظة الإقليمية الحالية شديدة الخطورة، ولا تحتمل الدخول في مسارات تفاوضية جانبية لا تخدم هدفها الأساسي المتمثل في التمهيد لتفاوض مباشر مع الولايات المتحدة عبر البوابة السعودية، وليس عبر أي طرف آخر.
فالمعلومات المتقاطعة تؤكد أن قرار «الحزب» لم يكن أحاديًا، بل جاء منسجمًا بالكامل مع الرؤية الإيرانية التي ترى أن مصر، رغم دورها التاريخي وثقلها الدبلوماسي، ليست القناة المؤهلة حاليًا لتغيير قواعد الاشتباك السياسي في الملف اللبناني، وبالنسبة لطهران، أي مقاربة لا توصل إلى طاولة الأميركيين تبقى محدودة السقف، وغير قادرة على بناء مسار تفاوضي فعلي، ولذلك جرى التعامل مع المبادرة المصرية على أنها خطوة لا تمتلك القدرة على إنتاج نتائج حقيقية، ولا تستحق أن تتحول إلى مفاوضات رسمية أو آلية مستمرة. وعلى هذا الأساس، ورغم حصول لقاء غير رسمي بين «الحزب» والجانب المصري، إلا أن هذا اللقاء بقي في حدوده الدنيا ولم يتحول إلى إطار تفاوضي واضح. إذ يفضل «الحزب»، انسجامًا مع تموضعه الإقليمي، القناة السعودية التي يعتبر أنها وحدها تملك القدرة على الوصل المباشر بالأميركيين، وأنها ببساطة الطريق الأقصر للوصول إلى الهدف الحقيقي وهو تفاوض مباشر مع واشنطن يحسم مستقبل الملف اللبناني ضمن صفقة شاملة.
هذه القراءة تتقاطع مع استنتاجات معظم الجهات التي حاولت الاستثمار في مسار الحل اللبناني. فالمساعي العربية والأوروبية اصطدمت بقناعة راسخة لدى «الحزب» بأن معالجة الأزمة في لبنان لا يمكن أن تجرى عبر مبادرات محلية أو إقليمية منفصلة، بل عبر اتفاق كبير يُعاد من خلاله رسم حدود النفوذ والأدوار في المنطقة. وهذا ما يفسّر التشدّد الذي عبّر عنه الشيخ نعيم قاسم، حين اشترط رفع العقوبات عن «الحزب» وشطبه من لوائح الإرهاب قبل القبول بأي لقاء مع أي دولة غربية، وهذا الموقف جاء بعد ورود طلب من دولة غربية للجلوس إلى «الحزب»، وهو شرط يعرف الجميع أنه غير قابل للتحقق في الظروف الحالية. وبذلك يصبح الهدف الفعلي من وضع هذا السقف المرتفع إقفال كل القنوات الجانبية التي لا تمر عبر واشنطن، وليس مجرد التمسك بمطلب سياسي
من جهة أخرى، ورغم رغبة «الحزب» وطهران في فتح خط تفاوض مباشر مع الولايات المتحدة، فإن الموقف الأميركي لا يزال على ضفة أخرى تمامًا. فواشنطن لم تُظهر حتى الآن أي استعداد لتليين شروطها، وهي تعتبر أن أي تفاوض مع «الحزب» يجب أن يسبقه نقاش حول مستقبل سلاحه، وهو شرط يدرك «الحزب» أنه غير قابل للبحث بعيداً عن إيران، التي ترى في هذا السلاح جزءًا من منظومة الاستثمار الإقليمية التي تبني عليها توازنها الاستراتيجي. ولذلك يبدو الحوار بين الطرفين مستحيلًا في الظرف الراهن، رغم أن كليهما يدرك أن الضغط المتواصل سيعيد فتح القنوات عاجلًا أم آجلًا.
هذه الضغوط، وإن كانت في جوانب منها ذات طابع تهويلي، إلا أنها تحمل رسائل جدية لطهران بأن واشنطن قادرة على تشديد الخناق أكثر، سواء عبر العقوبات أو عبر التصعيد الأمني والسياسي غير المباشر، وذلك بهدف دفع إيران إلى تقديم تنازلات في الساحة اللبنانية. إلا أن طهران تراهن على الوقت وعلى تبدّل السياقات الدولية، وتعتبر أن أي تنازل كبير في لبنان يجب أن يكون جزءًا من صفقة أميركية – إيرانية شاملة، وليس ثمنًا لمبادرات جزئية مهما كانت هويتها.
في المحصلة، يتأكد يومًا بعد يوم أن الأزمة اللبنانية باتت رهينة التوقيت الإقليمي والدولي، وأن أي محاولة لحل داخلي ستظل عاجزة عن اختراق الجدار ما دامت طهران و «حزب الله» يعتبران أن الحل الحقيقي يبدأ من واشنطن، وليس من القاهرة أو أي عاصمة أخرى. ومن هنا ولدت المبادرة المصرية ضعيفة ومحدودة، وستبقى أي مبادرة مماثلة محكومة بالنتيجة ذاتها إلى أن يُفتح المسار الذي تنتظره إيران وهو تفاوض مباشر يُعاد من خلاله رسم موازين القوى في لبنان والمنطقة.