كتبب أندريه مهاوج في “نداء الوطن”:
بزيارة الموفد الفرنسي جان – إيف لودريان بيروت ولقاءاته مع المسؤولين فيها، تسعى باريس لترسيخ دور ريادي في الملف اللبناني. وتعبر هذه الزيارة عن رغبة باريس بحجز مقعد لها في التسوية المقبلة، عبر دعم خطّة لبنان لاستعادة «احتكار الدولة السلاح» ودعم مؤسساتها سياسيًا وأمنيًا، في لحظة حرجة يتداخل فيها الضغط الدولي مع المسار السياسي الداخلي ومع التحولات التي فرضتها المواجهات العسكرية على الحدود واستمرار اسرائيل باستهداف العناصر البشرية لـ”حزب الله” ومواقع جغرافية تقول انها تندرج في إطار التجهيزات العسكرية للحزب.
تقاطعات سياسية وأمنية
تتقاطع هذه الزيارة مع ثلاثة عناصر ذات وزن سياسي وأمني:
هناك أولا مسار تفاوضي – إداري جديد يتضمن ضم مدني إلى آلية الناقورة، مما يغيّر طابع الترتيبات من تقني – عسكري بحت إلى إطار ذي أبعاد سياسية. تعيين السفير الأسبق سيمون كرم في الوفد المفاوض يندرج في إطار هذا التحوّل الذي رسخه رئيس الحكومة نواف سلام من قطر بحديثه عن الوصول الى حصرية السلاح.
الأمر الثاني، يتجسد بقرار الحكومة استكمال متابعة خطة تكليف الجيش بجمع سلاح “حزب الله”، على الرغم من اعتراضات الحزب المتكررة والتدخل الإيراني في هذا الامر والذي انتقدته باريس بشكل رسمي فأبلغت طهران بموقفها الداعي الى وقف التدخل في الشأن اللبناني. يلاقي صمود الحكومة في وجه الضغوط وعمل الجيش الميداني في تنفيذ القرار الحكومي، ترحيبًا رسميًا من الجانب الفرنسي الذي وصفه بأنه «إشارة قوية إلى عزم لبنان على سيادته، وحدوده، وعلاقاته السلمية مع جيرانه.
ثالثا وأخيرًا، تأتي زيارة لو دريان في هذا التوقيت، في سياق تسريع تنفيذ هذا التوجّه، بينما الضغوط الأميركية مستمرة، والواقع الأمني على الحدود هشّ. فرنسا تريد أن تكون جزءًا من «معادلة الضغوط» على الأطراف اللبنانيين والإقليميين، لكي لا يُنظر إليها لاحقًا كمجرد منظم مؤتمرات الدول المساعدة والمانحة، بل كضامن شرعي لسيادة الدولة بما فيها السيادة الأمنية والسياسية.
تحول في عقلية إدارة الملف
في هذا السياق، فإن تعيين السفير الأسبق سيمون كرم رئيسًا للوفد اللبناني في لجنة المتابعة مع إسرائيل يؤشر إلى تحول في عقلية إدارة الملف: الانتقال من «منظور ميليشياوي/عسكري» إلى «منظور دولة/مدنية» بتمثيل لبناني بمفاوض مدن غير عسكري. هذا التعيين يُقرأ كخطوة لبنانية تلاقي دعمًا دوليًا وعربيًا وتعطي صورة واضحة عن عزم الدولة على حصر التمثيل السياسي والعسكري بمؤسساتها الرسمية وبأنها هي من يتولى التفاوض على وقف النار وترتيب الحدود، متخطية اعتراض “حزب الله” والمواقف الإيرانية الداعمة لتمسك الحزب بسلاحه. وفي هذا السياق تحمل زيارة لودريان موقفا فرنسيًا حازمًا ونصيحة واضحة للحزب بالالتزام بقرار حصر السلاح لتجنب عملية عسكرية إسرائيلية مدمرة. وهذه الرسالة التي يحملها لودريان إلى بيروت سيبلغها بوضوح الى “حزب الله” من خلال رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وربما مباشرة الى القيادة السياسية للحزب. فالدوائر المتابعة لمهمة لودريان لا تستبعد لقاءً مباشرًا، إذا كانت الحاجة تقتضي والظروف تسمح. وهناك من يعتبر داخل الدوائر المتابعة ان لقاءً مباشرًا مع ممثلين عن الحزب له مفعول أقوى ويعتبر في الوقت نفسه رسالة مباشرة لإيران.
معادلة مركبة
باريس تواجه معادلة مركبة: فقدت عبر سنوات سابقة جزءًا من نفوذها التقليدي في لبنان لصالح قوى إقليمية، لكنها ما تزال تملك «ورقة الإعمار» وثقلًا في المحافل الأوروبية والأممية. زيارة لو دريان تظهر رغبة باريس في البقاء لاعبًا أساسيًا عند رسم ما بعد أي تسوية على الحدود، وبالمقابل تحاول استثمار دعم الجيش والإعمار كورقة نفوذ لربط أي دعم خارجي بتقدّم يفيد سيادة الدولة اللبنانية، من منظور باريس، ومنع تفرد خارجي، أميركي سياسي وإسرائيلي عسكري، بتحديد مصير لبنان وحدوده.
من وجهة نظر باريس، هذا التوجّه يصبّ في مصلحتها: أولاً لأنها تدعم منذ فترة فكرة سيادة الدولة وترتيب أمن جنوب لبنان؛ ثانياً لأنها تسعى لتثبيت نفسها كلاعب دولي محوري في أي تسوية، خصوصًا إذا كانت مدعومة أميركيًا وعربيًا.
ثالثًا، تعتبر باريس أن ربط الدعم الدولي بالإعمار وتقديم المساعدات ودعم مؤسسات الدولة لتنفيذ هذه الخطط يعيد للبنان دوره في المنطقة ضمن إطار استقرار وليس صراع.
دبلوماسية لودريان
لكن باريس تدرك منطق التوازن: نزع سلاح “حزب الله” ليس مجرد قرار إداري، إنه قرار محفوف بالمخاطر الأمنية والسياسية في الداخل اللبناني، ويتطلب ضمانات دولية وإقليمية وخطوات عملية منها انسحاب إسرائيل من التلال التي تحتلها في جنوب لبنان وضمانات لوقف الاعتداءات واستعداد اللبنانيين لتجاوز حسابات القوّة الميليشياوية.
يترجم هذا التوجه ببيان وزارة الخارجية الفرنسية الذي جاء فيه أن «منحى نزع السلاح» هو ضمن مهمة الجيش اللبناني، مؤكدة دعمها سيادة الدولة، مع اعترافها في الوقت نفسه أن التنفيذ «صعب ويحتاج جهدًا يوميًا».
تعرف باريس أن أي تعثّر في مسارات التهدئة أو نزع السلاح قد يعيد التوتر إلى مستوى عسكري واسع، لذلك فإن زيارة لودريان جاءت بالتنسيق مع واشنطن والعواصم العربية صاحبة مبادرات التهدئة والعمل على التوصل الى تسوية مثل مصر والسعودية وقطر، ولكن باريس تريد أيضا ألا تكون بعيدة عن ساحة التحرك السياسي لتحجز لها دورًا في عملية التسوية المرجوة وما سيليها.
ما لا تملكه باريس
لا تملك فرنسا أوراق الضغط الكافية لإجبار “حزب الله” على تسليم السلاح. هذا الهدف يستدعي توافقا إقليميًا وقرارًا إيرانيًا ضمن صيغة مشتركة قابلة للتنفيذ.
لا تستطيع فرنسا إيقاف الضربات الإسرائيلية أو تغيير جملة السياسات الأميركية إزاء الأمن الإقليمي؛ دورها يبقى في الصف الثاني مقارنة بتأثير واشنطن في الموقف العملي تجاه إسرائيل والضغط على لبنان.
الموقف الرسمي الفرنسي مركزي وواضح: دعم «احتكار الدولة للسلاح» وجعل ذلك جزءًا من خطة سيادية لبنانية تستكمل بتقديم الدعم للجيش والأموال للإعمار كحوافز. لكن على مستوى الحسابات الواقعية، لا تطلب باريس القضاء على “حزب الله” بالقوة، بل إلى إدماج أي تسوية لسلاحه داخل إطار سيادي لبناني تدريجي وبآجال محددة، وتجنب اندلاع حرب إقليمية.