كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
لم تكن مجرد مصادفة في التاريخ والتواريخ أن تبدأ معركة ردع العدوان في سوريا لإسقاط نظام بشار الأسد، في 27 تشرين الثاني 2024، في اليوم نفسه الذي كان “حزب الله” في لبنان، مع الحكومة الموالية له ومع رئيس مجلس النواب نبيه بري، يوافقون على اتفاق وقف النار الذي كان بمندرجاته إعلانًا لهزيمة “الحزب”. عشرة أيام كانت كافية حتى تصل قوات المعارضة من إدلب والسويداء ودرعا إلى دمشق، وحتى يتخلّى بشار الأسد عن السلطة ويفرّ إلى قاعدة حميميم العسكرية الروسية في اللاذقية، قبل نقله إلى موسكو.
عندما وافق “حزب الله” على اتفاق وقف النار كان يعتقد أنه يوقف الحرب حتى لا يتم القضاء عليه نهائيًا. وأنه في ظل هذا الاتفاق يمكنه استعادة قدراته والبقاء على قيد الحياة من خلال استمرار تأمين الدعم المالي والعسكري من إيران عبر بغداد ودمشق. ولكنه لم يتوقع أن تأتيه الضربة الثانية القاضية من دمشق بعد هروب الأسد.
حتى آخر أيامه بقي أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصرالله يحكي عن انتصار النظام في سوريا وكيف أنه من خلال دعمه له استطاع الأسد أن يواجه حربًا كونية شُنت على سوريا. تمامًا كما كان يحكي عن أن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت وأن حزبه بات يمتلك قوة الردع التي يستطيع من خلالها أن يطال أي هدف داخل إسرائيل وكيف أن الإسرائيليين سيسرعون إلى الهرب ولن يقاتلوا، وأن الدولة العبرية ستنهار وتنتهي قبل أن تبلغ الثمانين من العمر. الواقع أن النتائج كانت عكسية انتهى السيد حسن نصرالله في 27 أيلول 2024 بعدما تمكنت إسرائيل من اغتياله في مخبئه السري وانتهى حكم بشار الأسد في سوريا بعد شهرين ونصف.
عصر الأب المؤسِّس
عمليًا بدأ انهيار نظام الأسد عام 2000 بعد وفاة المؤسّس الأب حافظ الأسد. منذ مقتل ابنه باسل في حادث سير في 21 كانون الثاني 1994 شعر أن عرشه اهتز. كان يحضره ليحلّ محلّه ويكمل المسيرة ولكن القدر كان يعاكسه. لذلك استُدعي الإبن الثاني بشار على عجل لإعداده لكي يتمكّن من الإمساك بقرارات السلطة وبرجالاتها ومؤسساتها وتتأمّن له ظروف الخلافة السهلة. فقد كان معروفًا على نطاق ضيق في سوريا وعلى مستوى دوائر المخابرات الأميركية والإسرائيلية والأوروبية أن الأسد الكبير يعاني من ظروف صحية صعبة ليست قاتلة ولكنها خطيرة وتبقى حياته معها مهدّدة. لم تكن تلك التجربة الأولى التي يمرّ بها الأسد الأب. عام 1983 عانى من حالة صحية خطيرة هدّدت بقاءه في السلطة وحاول وقتها شقيقه رفعت السيطرة على السلطة حتى تتأمّن له ظروف الانقلاب عليه وتولي الرئاسة بالقوة إن لم يتمكّن من خلال الدستور والنظام. ولكن معاوني الأسد الأقوياء وقتها كانوا له بالمرصاد ومنهم خصوصًا رئيس هيئة الأركان حكمت الشهابي ووزير خارجيته عبد الحليم خدام، بالإضافة إلى أن المحاولة انتهت وحسم الصراع لأن الأسد الكبير بقي حيًّا وعاد إلى السلطة ليكون القرار الأول الذي اتخذه إبعاد شقيقه إلى الخارج بعدما أمّن له المال اللازم لذلك.
الشهابي وخدّام بين أسدين
من المفارقات أن الشهابي وخدّام اللذين وقفا في وجه رفعت وقتها اتُهما بعد عام 2000 أنهما يخططان للانقلاب على الأسد الإبن وأنهما لم يكونا يواجهان رفعت لأنهما يحبّان الأسد بل لأنهما كانا لا يريدان أن يستولي رفعت على السلطة. ولكن الزمن بقي يدور في الدائرة نفسها. من مفارقات القدر أن بشار سمح لعمّه بالعودة إلى سوريا فعاد في تشرين الأول 2021، بعد 36 عامًا في المنفى، وذلك لتجنب السجن في فرنسا بعد تأييد حكم ضدّه بتهم غسل الأموال والاختلاس، وبعد مصادرة ممتلكاته في إسبانيا. بعد ثلاثة أعوام فقط كان مضطرًا للبحث عن طريق جديد للهرب بعدما سبقه بشار في الفرار.
الضابط العلوي ابن القرداحة
لم يكن من السهل على ضابط مغمور مثل حافظ الأسد أتى إلى الجيش السوري من القرداحة في جبل العلويين أن يحكم سوريا طوال ثلاثين عامًا وأن يورث الحكم لابنه طوال 24 عامًا أخرى. قبل توليه السلطة عام 1970 كانت سوريا ساحة للصراع عليها. معه صارت وظيفتها الإشتراك في صراعات المنطقة. كان أحد الضباط الأساسيين الذين قادوا الانقلاب الذي أوصل حزب البعث إلى السلطة في 8 آذار 1963، وكان أحد الضباط الذين انقلبوا على سلطة البعث المدنية في 23 شباط 1966، ثم على رفاقه العسكريين في 16 تشرين الثاني 1970، عندما اعتقل صلاح جديد وزجّه في السجن ليصير سيّد سوريا.
حكم حافظ الأسد سوريا بقبضة من حديد بعدما تخلّص من معارضيه واستعان بمساعدين له لا يستطيعون الخروج عن طاعته. على رغم تحميله مسؤولية هزيمة حزيران 1967 واحتلال إسرائيل مرتفعات الجولان لأنه كان وزيرًا للدفاع وأعطى للجيش الأمر بالانسحاب من الجبهة، إلا أنه خاض حرب تشرين 1973 التي تمكّن فيها جيشه من اختراق الخطوط الإسرائيلية قبل أن ينهار أمام الهجوم المعاكس الذي وسع فيه الجيش الإسرائيلي مناطق سيطرته وفتح الطريق في اتجاه دمشق. في ظلّ هذا الوضع وقع الأسد اتفاق الهدنة مع إسرائيل في 31 أيار 1974 ومنذ ذلك التاريخ لم تطلق طلقة واحدة على الجبهة، وارتد الأسد إلى لعب الأدوار المرسومة في الجبهات العربية، وأهمها على الإطلاق تدخله في الحرب اللبنانية وإدخال جيشه إلى لبنان منذ أواخر عام 1975 ليبقى فيه حتى نيسان 2005.
الإبن الضعيف
عندما تولى ابنه بشار السلطة خلفًا له انتقلت سوريا من عصر إلى عصر. رئاسة بشار كانت مرحلة انتقالية قبل الإانهيار. صحيح أن الأسد قبض على السلطة بقوة ولكنه لم يستطع أن يوحّد سوريا والشعوب التي تتكوّن منها. ولذلك كانت قدرة بشار على الحفاظ على الدور السوري في المنطقة كما كان أيام والده صعبة للغاية كما أنه أمّن المناخ اللازم للانهيار الداخلي. اعتبر أن بقاء النظام في دمشق يتأمّن من خلال السيطرة على بيروت. بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 وإجباره على سحب جيشه من لبنان اعتبر أنه بات عليه أن يدافع عن نظامه داخل سوريا. بعد ستة أعوام فقط، في 15 آذار 2011، اندلعت شرارة المعارضة له من درعا. كانت الرسالة واضحة وقد قرأها السيد حسن نصرالله في حارة حريك. لذلك كانت معركته واحدة مع الأسد. في ظل وقف للنار على جبهتي الجولان والجنوب في لبنان اشتعلت الجبهات داخل سوريا وظهر سريعًا أن الوحدة السورية كانت مصطنعة ومفروضة بالقوة. سقط النظام عمليّا مع الطلقة الأولى للثورة.
بين سليماني وبوتين
عام 2015 كادت قوات المعارضة أن تدخل دمشق. ذهب قائد فيلق القدس الإيراني اللواء قاسم سليماني إلى موسكو والتقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وطلب منه التدخل. في أيلول لبّى بوتين رغبة إيران والأسد ليس حبًّا بالنظام بمقدار رغبته في الحفاظ على مصالح روسيا في سوريا. هكذا أنقذ بوتين النظام من الانهيار ولكنه كان حضّر المكان المناسب الذي سينتقل إليه الأسد لاجئًا.
13 عامًا من الحروب الداخلية كانت كافية لإعادة تفكيك سوريا. الانقسامات التي كانت تغطيها قوة الأسد والاعتقالات والسجون انفجرت دفعة واحدة. صارت سوريا مقسمة بين السنة والعلويين والدروز والأكراد. وصارت محتلة من الروس وإسرائيل والأميركيين وإيران و”حزب الله” وجيش النظام. لم يكن بإمكان الروس أن يستمرّوا في حماية نظام منهار. ولكن إيران و”حزب الله” اعتقدا أن النظام انتصر وأن طريق طهران بيروت ستبقى مفتوحة وأن محور الممانعة سينتصر وسيرسم خارطة المنطقة من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان وسيغيّر النظام في الأردن وفي مصر وليبيا والسودان. ولكن الحسابات كانت خاطئة.
من إدلب إلى حلب ودمشق
عندما بدأ خروج قوات هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع من إدلب في اتجاه حلب لم يتصوّر من تبقى من قادة “حزب الله” أن العملية سريعة وحاسمة. اعتقدوا في إيران أيضًا أن الأسد سيقاوم والهجوم سينهزم. ولكن ما حصل كان العكس. حاول “الحزب” أن يحمي قواعده في حلب فسقطت. ثم في حماة فسقطت. أرسل قوات من لبنان للدفاع عن حمص وهو لا يفهم لماذا ينهار جيش الأسد. في 8 كانون الأول 2024 وجد نفسه أمام هزيمة أكبر من الهزيمة التي تعرّض لها في لبنان وكان عليه أن ينسحب متقهقرًا من كل سوريا وأن يسحب معه الذين قال إنه ذهب يقاتل لحمايتهم. منذ انخرط “الحزب” في حرب المساندة في 8 تشرين الأول 2023 وقف الأسد بعيدًا يتفرّج. ترك الطريق مفتوحًا فقط. لم يكن “الحزب” في وضع يسمح له بالسؤال عن سبب عدم فتح جبهة الجولان مثلًا. حتى أن الأسد لم يبلغ “الحزب” وإيران أنه ذاهب إلى موسكو. سقطت دمشق وسقط معها رهان “الحزب” الذي تكبّد على مدى 14 عامًا خسائر كبيرة دفاعًا عن الأسد إلى الحدّ الذي اعتبر فيه كثيرون أن التفوق الإسرائيلي على “الحزب” نتج عن انكشاف قواعده وقادته في سوريا.
سوريا الجديدة قديمة
بعد عام على سقوط النظام السابق يقدم الرئيس الانتقالي أحمد الشرع نموذجًا لسوريا جديدة ولكن سلطته تبقى محدودة في قيادة عملية التغيير. سوريا السابقة مهدّدة اليوم. الوحدة بقوة النظام باتت شيئًا من الماضي. ثمة وحدة مركبة يمكن أن تكون المخرج بين الوحدة وبين الانقسام. الأرض ليست وحدها تتقسّم. الشعب بات مقسّمًا. سوريا التي تجاوزت قرارات التقسيم أيام الانتداب الفرنسي تعود اليوم لتعيش واقع هذا الانقسام بين مناطق تطالب بالحكم الذاتي: الأكراد في الشمال الشرقي والدروز في السويداء والجولان، والعلويون في الساحل. بينما توسع الاحتلال الإسرائيلي وبقي الانتشار العسكري التركي والأميركي والروسي.