IMLebanon

عام على التحوّل السوري… من انهيار النظام إلى انفجار الهويات

كتب جوزيف حبيب في “نداء الوطن”:

يحيي السوريون اليوم الذكرى السنوية الأولى لسقوط نظام الأسد. عام واحد كان كفيلًا بدفن أكثر من نصف قرن من حكم جائر، من دون أن يطوي صفحات مأسوية ما زالت بلا أجوبة. عام تصدّعت خلاله أمبراطورية “الحرس الثوري” الإيراني بقطع خط طهران – بيروت وتهشيم منشآت إيران النووية بعد إعطاب أذرعها. عام زادت فيه مخاوف الملالي من انتصار شعر النساء والفتيات الجريئات المنسدل والتفافه حول عنق نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية ليلقى مصير نظام البعث السوري. عام نجح فيه حكّام دمشق الجدد بانتشال سوريا من عزلتها الدولية، ونسج علاقات مع أعدائها السابقين، ورفع السواد الأعظم من العقوبات عنها، وتشريع أبواب البلاد أمام الاستثمارات الأجنبية ومشاريع إعادة الإعمار. عام تدفقت فيه أنهار من الدماء البريئة وغير البريئة في اقتتال طائفي متنقل تخلّلته حملات “بوغروم” وحشية بحق العلويين والدروز، ما عمّق الجراح غير الملتئمة أصلًا بين الأكثرية السنية والأقليات، وأدّى إلى انفجار الهويات الطائفية وتصاعد الأصوات المنادية بحق تقرير المصير.

لم يكن يوم 8 كانون الأوّل 2024 كغيره من الأيام بالنسبة إلى ملايين المضطهدين والمصابين والنازحين واللاجئين وذوي القتلى والمفقودين. فهذا النهار توّج تاريخ 15 آذار 2011 حين اندلعت شرارة الثورة السورية في درعا. كان 8 كانون الأوّل بمثابة “انتقام” مدوّ لجميع السجناء الأبرياء الذين عُذبوا أو قتلوا في “مسالخ البعث”، وللمراهق حمزة الخطيب، ولضحايا هجوم الغوطة الكيماوي، ولكلّ إنسان أزهقت روحه ليبقى بشار، وقبله والده حافظ، متربّعين على عرش شيّد على جبل شاهق من الجماجم البشرية. تخلّصت سوريا من طغيان آل الأسد في 8 كانون الأوّل، لكنها لم تتحرّر من تراكمات الأحقاد الدفينة التي تفجّرت في الساحل والسويداء وأماكن أخرى. خلعت سوريا عباءة حزب البعث وأطاحت طاغية الشام، بيد أنها لم تتخلّص من عقلية الإلغاء والإقصاء المتجذرة. وما يزيد الطين بلّة، أن مخلّفات التاريخ القاتم تتحكّم في الوجدان الجماعي لكلّ “فرقة دينية”، وتوجّه ممارساتها وتحدّد خياراتها.

لن يكون سهلًا على السوريين الوصول إلى شاطئ الأمان بعد عقود من “الجفاف السياسي” وحرب أهلية طحنت مئات الآلاف. إلّا أن التجربة السورية الطويلة، أقلّه منذ استيلاء حزب البعث على مقاليد الحكم في ستينات القرن الماضي، تؤكد أن الصيغة المركزية كانت العدوّ رقم واحد للشعوب السورية وحرّياتها وكرامتها ونمائها. صحيح أن السنة العرب يشكّلون الغالبية في بلاد الشام، بيد أن التركيبة الفسيفسائية للمجتمع السوري تفرض عقدًا اجتماعيًا ونظامًا سياسيًا ينسجمان مع الواقع الطوائفي التعددي، لكي يأخذ كلّ ذي صاحب حق حقه، بلا زيادة أو نقصان. ولعلّ المصائب والمجازر التي طبعت هذه السنة الحافلة، خير دليل على ضرورة إيجاد حلول جوهرية تحاكي هواجس الأقليات الدينية والإثنية، من دون المساس بالحقوق المشروعة للأكثرية السنية العربية.

سوريا بأمسّ الحاجة لنظام متقن للعدالة الانتقالية الشاملة، لكي تستطيع العبور من الفوضى وشريعة الغاب إلى الاستقرار وحكم القانون. فهذا المسار، إن تحقق، يوفر سنوات أخرى مشبّعة بالدماء، إلّا أن الخطوات المتخذة اليوم لا تشير إلى نية فعلية في تحقيق ذلك. تتقاطع الديناميكيات الداخلية مع مصالح القوى الإقليمية والدولية، ما يفاقم تعقيد المشهد السوري وتأزمه. فالعلويون الذين فقدوا كلّ شيء منذ هروب الأسد، يشعرون بتهديد وجودي داهم. هذا الشعور حرّضهم أخيرًا على الخروج بتظاهرات حاشدة تطالب صراحة بالفدرالية، الطرح المرفوض تمامًا من النظام الحالي الذي يسعى إلى تثبيت دعائم حكمه وتوسيعه ليطول كافة الأراضي السورية. يراهن العلويون على دور روسي مساعد لتحسين وضعيّتهم، وهذا ما دفع بالرئيس أحمد الشرع، إلى جانب أمور أخرى، إلى زيارة موسكو ولقاء الرئيس بوتين.

تحاول شخصيات مرتبطة بالنظام الهالِك، استغلال حال المظلومية عند العلويين لتجنيدهم بهدف زعزعة سلطة الشرع، وإقامة نوع من الحكم الذاتي في الساحل بالقوّة. ورغم أن احتمال حصول تحرّك جدّي في هذا الإطار يبقى ضعيفًا حتى اللحظة، إلّا أن هذه المعطيات تطرح علامات استفهام حول طريقة مقاربة دمشق الخاطئة للمعضلة العلوية، خصوصًا أن هذه أقلية تتمتع بثقل ديموغرافي وازن في منطقة الساحل الاستراتيجية، حيث المنفذ البحري الوحيد لسوريا على المتوسط. أمّا الدروز، فقد تكبّدوا فاتورة دم باهظة ليتمكّنوا من فرض نوع من الحكم الذاتي على أجزاء واسعة من محافظة السويداء بقيادة الشيخ حكمت الهجري وبدعم إسرائيلي صريح. أصبح الدروز ينادون علانية بالانفصال ويعملون على ترسيخه، وما عادوا ينظرون إلى الفدرالية كمشروع حل للأزمة السورية المستعصية.

لم تتردّد الدولة اليهودية لحظة في شن موجات مكثفة وطويلة لتدمير البنية التحتية الحيوية والأسلحة الاستراتيجية للجيش السوري فور انهيار نظام الأسد. كما وسّعت تل أبيب سيطرتها على أراض في الجنوب السوري، وتنفذ توغلات شبه يومية في ريفي القنيطرة ودمشق، وتجزم مرارًا على مسامع السلطات السورية بأن أي اتفاق معها ينبغي أن يلبّي شروطها، ولا سيّما ما يتصل بإنشاء منطقة عازلة منزوعة السلاح، من دمشق حتى الحدود مع إسرائيل، فيما تضع تل أبيب المسألة الدرزية في صلب أجندتها المتعلّقة بسوريا. ينتظر الخبراء ما قد ينتج عن زيارة نتنياهو الخامسة المرتقبة للبيت الأبيض هذا العام، حيث سيجتمع مع ترامب، الذي يدفع في اتجاه اتفاق أمني بين إسرائيل وسوريا.

وبالانتقال إلى شمال شرق سوريا، نجح الكرد بتشييد منظومة سياسية – خدمية – أمنية – عسكرية، قادرة وقوية ضمن مناطق “الإدارة الذاتية” على امتداد الحرب الأهلية. يتعثر تطبيق “اتفاق 10 آذار” بين دمشق و”قسد”، الذي من المفترض إتمامه بحلول نهاية العام الحالي. لن تقبل “قسد” بالذوبان في وحدات الجيش السوري المكوّن بغالبيّته من فصائل جهادية، كما يتمسّك الكرد بالحكم الذاتي الذي يحفظ خصوصيّتهم ولغتهم، ويؤمّن لهم القدرة على إدارة شؤونهم بأنفسهم بعيدًا من القمع وفرض أيديولوجيات لا تمت لثقافتهم بصلة. القضية الكردية تعني أنقرة بالدرجة الأولى إقليميًا، وهي تأمل في أن يؤدّي زعيم “حزب العمال الكردستاني” المسجون عبدالله أوجلان دورًا مسهّلًا في حلحلة النقاط الشائكة بين “قسد” ودمشق. يقف الكرد السوريون أمام مفترق طرق صعب للغاية، فليس يسيرًا عليهم التخلّي عن مكتسباتهم المتراكمة بفضل تضحياتهم الجسيمة، من دون أي ضمانات سياسية راسخة تجعلهم شركاء حقيقيين في بناء سوريا الجديدة.

لا يريد من تبقى من مسيحيي سوريا المنتشرين على كافة أراضيها، أن يعيشوا بخوف دائم على أمنهم ومستقبل أولادهم في أرض أجدادهم التاريخية، وهم يطمحون بأن يكونوا مواطنين متساوين مع غيرهم من السوريين في الحقوق والواجبات، بعيدًا من أي شكل من أشكال الذمية المقيتة. لن تبصر أي تجربة سورية ناجحة النور، بانتهاج نفس المقاربة “الوحدوية التذويبية” المعتمدة سابقًا، ولو بقالب عقائدي مختلف. تستحق سوريا نظامًا مفصّلًا على المقاسات الدقيقة لجسمها المجتمعي التعددي، يُحدث طلاقًا فعليًا ونهائيًا مع النهج الماضي. فالاستقرار الداخلي ضروري للتنمية المستدامة ولاستقطاب استثمارات خارجية تنتشل البلاد من كبوتها. وبصرف النظر عن التحدّيات الهائلة التي ما زالت ماثلة أمام بناء دولة المساواة والعدالة والحرّية وكرامة الإنسان في سوريا، إلّا أن الذكرى الأولى لتداعي أحد أشنع الأنظمة في المنطقة، تعطي بارقة أمل أن التغيير ممكن إن توفرت الإرادات الصادقة والنوايا الحسنة.

أثبت بشار الأسد أنه لم يكن إطلاقًا على قدر المسؤولية لتولّي رئاسة سوريا. بشار أكبر مثال صارخ على مساوئ التوريث السياسي، لكنه تعلّم شيئًا واحدًا من والده، ألا وهو سفك الدماء للبقاء في قصر الشعب. انتهت صلاحية هذه السياسة فجر 8 كانون الأوّل، حين فرّ الأسد إلى موسكو تاركًا وراءه جيشه وأركان نظامه وحتى شقيقه ماهر. وقريبًا، قد يلتحق به “رفيقه” الفنزويلي مادورو. يبقى أن ينضمّ إليهما خامنئي، ليشكّلوا معًا ناديًا في المنفى الروسي للقادة الفاشلين الهاربين، الذين أفقروا شعوبهم وقهروها وهجّروها، وصدّروا الأزمات إلى جيرانهم، وأرادوا يومًا هزيمة ما يصفونها بـ “الإمبريالية الأميركية”، ليجدوا أنفسهم في مواجهة شعوبهم التواقة إلى التحرّر من ظلم “الاستعمار الداخلي” وجوره، بمساعدة قوى الخارج، وعلى رأسها الولايات المتحدة.