IMLebanon

كيف يعيد لبنان بناء نفسه؟

كتب حسن عاكوم في “اللواء”:

لا يُترك إعداد القادة في الدول الحديثة للصدفة، ولا يُترك مصير الإدارة العامة إلى الولاءات الطائفية أو الشبكات الزبائنية. فالدولة بمفهومها الحديث لا تُبنى فقط عبر الدستور والمؤسسات والقوانين بل عبر معامل إعداد القيادات من الجامعات، الأكاديميات المتخصصة، مدارس الإدارة ومراكز الفكر التي تراقب وتنتج القرار العام.

من فرنسا إلى ماليزيا ومن الولايات المتحدة إلى بريطانيا أثبتت التجربة العالمية أن أي نظاما سياسيا لم ينجح يوماً من دون مؤسسة تعليمية بحثية تتولى تخريج كوادر قادرة على التفكير والتخطيط والتنفيذ. وفي المقابل أثبت التاريخ اللبناني أن سقوط الدولة بدأ مع إسقاط سلطة أمر الواقع الميليشياويّة للقيادة الوطنية وبنيّة دولتها.

هذه المقالة ليست وصفاً أكاديمياً بل خارطة طريق سياسية اجتماعية تعليمية توضح كيف يُصنع القادة ولماذا فشل لبنان، وكيف يمكنه استعادة المبادرة. فهناك نماذج عالمية مختلفة تبيّن كيفيّة صناعة القيادات في الدول الحديثة. لم تكن الثورة في فرنسا وحدها من بنى الجمهورية بل مؤسسات تعليمية صاغت عقل الدولة. فالـ École Polytechnique والـ ENA والـ Sciences Po ليست جامعات عادية بل مصانع تفكير تُعدّ نخبة الحكم والإدارة وتؤسس لوحدة الدولة عبر تكوين مشترك للخريجين بغض النظر عن خلفياتهم. منها تخرّج الرؤساء، رؤساء الوزارات، وزراء المالية، محافظو مصارف المركزية، كبار قضاة ودبلوماسيين، فالدولة صنعت قادتها ولم تنتظرهم. تلعب جامعات في الولايات المتحدة مثل Harvard, MIT, Georgetown, Stanford دوراً يتجاوز التعليم الى دور معامل للسياسات، هي مراكز القرار وصناعته وتعمل عبر مدارس السياسة العامة مثل Kennedy School على تدريب وزراء المستقبل، مستشاري البيت الأبيض ومديري الإدارات الفيدرالية. فالقوة هناك ليست في الشهادة فقط بل في شبكة الخبرة، التجربة، التدريب، البحث ومختبرات السياسات العامة. الجامعات البريطانية حاضنة نخب الدولة صيغت تجربة مختلفة من Oxford إلى Cambridge وقادة بريطانيا من تشرشل إلى جونسون كانوا نتاج «ثقافة سياسية» متكاملة تعلّم الطالب التفكير النقدي، التاريخ السياسي ومهارات القيادة، فلم تكن الجامعة منفصلة عن الدولة بل جزءاً من مشروعها. أما ماليزيا فهي نموذج للعالم الإسلامي الحديث، حين أرادت الانتقال من بلد زراعي إلى قوة اقتصادية لم تبدأ بالطرق والجسور بل بدأت بـالجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا IIUM، صُمّمت هذه الجامعة لتكون «مصنعاً للنخبة الماليزية» عبر برامج متعددة الثقافات، رؤية إسلامية حداثية، شراكات واسعة مع جامعات العالم، تأهيل قيادي في الإدارة والاقتصاد والقانون ولذلك أصبحت ماليزيا واحدة من أنجح تجارب التحوّل في آسيا.

منذ نشوء الكيان اللبناني ارتبطت صناعة النخبة بمسارين أساسيين الجامعة الأميركية في بيروت AUB والجامعة اليسوعية USJ، لعبت هاتان الجامعتان دور «الحاضنة الطبيعية» للنخبة السياسية والإدارية والطبية والمالية والقضائية. لكنّ هذا النموذج ارتبط بمنطق دولة الامتيازات الكولوناليّة، حيث كان الوصول إلى هاتين المؤسستين محكوماً بالقدرة المالية والعلاقات الطائفية والعائلية. كانت النتيجة نخبة محدودة تمسك بمفاصل الدولة بينما بقيت المناطق الأشد فقراً طرابلس، عكار، البقاع خارج هذه المنظومة. ومع صعود القومية العربية وتوسّع التأثير الناصري تأسست جامعة بيروت العربية BAU لتخلق توازناً بعيداً عن الهيمنة الأكاديمية التقليدية. لعبت هذه الجامعة دوراً مهماً في فتح أبواب التعليم أمام شرائح أوسع. لكنّها بقيت خارج دائرة صناعة القرار السياسي التي احتكرها خريجو المؤسسات النخبوية.

استفادت الأحزاب اليسارية والشيوعية من الحرمان الاجتماعي فوفّرت منحاً ضخمة إلى موسكو وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا وغيرها. هذه المنح أنتجت آلاف المهندسين والأطباء والمتخصصين لكنها لم تتحوّل إلى نظام وطني لإعداد القيادة لأنها لم ترتبط بدولة قوية بل بأحزاب تعاني من الانقسامات.

حاول الرئيس فؤاد شهاب أن يفعل ما فعلته الجمهورية الفرنسية، تقوية الدولة، إنشاء الجامعة اللبنانية، توسيع فروعها، تأسيس معاهد للعلوم الاجتماعية، بناء جهاز إداري علمي متماسك… فكانت تلك اللحظة الوحيدة التي اقتربت فيها لبنان من تأسيس جامعة وطنية تعدّ كوادر الدولة. لكن قوى الامتيازات الطائفية عطّلت المشروع لأنها رأت فيه تهديداً لبنية سلطتها التقليدية.

تسللت بعد الحرب عام 1991 فيروس ميليشيات الاتفاق الثلاثي برعاية نظام الأسد البائد وأنشأت سلطة محاصصة ميليشيات المال والسلاح وتحوّل أمراؤها إلى سلطة أمر واقع على حساب برنامج الدولة الدستوريّة الطبيعيّة من خلال تشويه بنيّة الدولة وإداراتها، زبائنيّة التوظيف على كل المستويات… أُخضعت الجامعة اللبنانية لمحاصصتهم الفيروسيّة وصولاً لفضائح تزوير العلامات والشهادات أخيراً! فالقضية التي ظهرت الى العلن أثارت صدمة وطنية لأنها ضربت الثقة بأهم مؤسسات الدولة العلمية. فقدت الدولة آخر ما يربطها بنموذج «المهنية» ليصبح زعيم الميليشيا هو الآمر الناهي في سلطة أمر واقع تشوّه برنامج العمل المؤسساتي للدولة وانهار أي مشروع لإعداد قيادات حقيقية.

تستند الخطة التي نقترحها إلى تخصصي في مبادئ التحليل النظامي لبناء منظومة متكاملة لإعداد القيادات تبدأ من الجامعة وتنتهي بالإدارة العامة. بداية عبر إعادة الاعتبار للجامعة اللبنانية، فلا يوجد وطن في العالم ينهض من دون جامعة وطنية قوية مستقلة عن التبعيّة الزبائنيّة. استقلال مالي وإداري كامل، منع التدخّل الحزبي في التعيينات، برنامج وطني موحّد لتأهيل الكوادر، إصلاح جذري في الامتحانات ونظم الجودة، إعادة بناء كليات القانون والإدارة والعلوم الاجتماعية باعتبارها «كلية القادة» وليس «كلية الوظائف».

الخطوة الثانيّة إنشاء «الأكاديمية اللبنانية للقيادة العامة» على غرار ENA الفرنسية، IIUM الماليزية، Kennedy School الأميركية، LSE البريطانية تكون نواة هذه الأكاديمية الجامعة اللبنانية بالإشتراك مع الجامعة الأميركية، الجامعة اليسوعية، جامعة بيروت العربية، البلمند وجامعات عالمية شريكة لتُخرج قيادات إدارية، رؤساء مصالح، خبراء سياسات، مدراء مؤسسات الدولة، كوادر اقتصادية وقانونية…

الخطوة الثالثة إنهاء منطق المحاصصة في التوظيف العام، لا يمكن إنتاج قيادات بينما عملية التوظيف تتم عبر الوسيط السياسي، المحاصصة الطائفية، الإستزلام مقابل الوظيفة والموقع المرتبط بالبنيّة السلطويّة الميليشياويّة. فنموذج التوظيف يجب أن يكون قائم على ثلاثيّة الجدارة، الكفاءة، القانون.

الخطوة الرابعة تكون بتأسيس مجلس أعلى للسياسات العامة ومهمته تحليل المشكلات الوطنية، وضع السيناريوهات، تقديم المشورة لمجلس الوزراء، إصدار «تقدير موقف استراتيجي» شهري، إشراك الخبراء والأكاديميين وبناء قاعدة بيانات وطنية.

أما الخطوة الخامسة فخطة تعليمية وطنية تعالج الحرمان، لا تُبنى القيادة في بيروت وحدها، يجب أن تكون المناطق الأفقر جزءاً من معادلة النهوض من خلال فروع جامعية حديثة في البقاع والشمال، برامج منح للطلاب المتفوّقين، مراكز تفكير محلية، إدماج الريف وثروته الفكريّة الخام في الاقتصاد الوطني.

تبيّن التجارب العالمية حقيقة أن لا قيادة بلا مؤسسات، ولا دولة بلا نخب مدرّبة، ولا نهوض بلا جامعة حديثة. ولن يستعيد لبنان مكانته قبل الخروج من عزلة التبعيّة التجهيل والعودة إلى بناء الإنسان، المواطن، الخبير، الإداري والمبدع. وقبل أن يحرر الجامعة اللبنانية من قبضة المحاصصة، ويعيد للجامعة الأميركية واليسوعية والعربية دورها الأكاديمي الحقيقي المُكمل، ويصنع من التعاون بينهم منظومة وطنية لإعداد قيادات المستقبل.

لقد دُمّر مصنع القيادة في لبنان خلال ثلاثة عقود من المحاصصة وحان الوقت لإعادة بنائه كشرط أول في مشروع إعادة تأسيس الدولة، فمن دون قادة محترفين لا دولة ولا إصلاح ولا نهوض.

December 9, 2025 06:48 AM