كتب عماد الشدياق في “نداء الوطن”:
من اسطنبول إلى بيروت، قرأ بطريرك الكنيسة الكلدانية في العراق والعالم الكاردينال لويس روفائيل ساكو، زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان كـ «رسالة سياسية – روحية» في آن.
يقول البطريرك لويس روفائيل ساكو في حديث خاص لـ «نداء الوطن»: «رافقت البابا لاوون في إسطنبول ولبنان»، حيث تبلورت أمامه معالم زيارة أرادها الفاتيكان امتدادًا لمسار بدأ من تركيا وانتهى على شاطئ المتوسط اللبناني.
هناك، كما في قصر بعبدا ووسط بيروت، سمع البطريرك ساكو ما يعزز قناعته بأن زمن «الحروب العبثية» يقترب من نهايته، حتى لو أصرّت القوى الإقليمية على العيش في أوهام «النصر المبين».
يشرح ساكو أن زيارة البابا حملت رسالتين متلازمتين:
– الأولى، سياسية، بدأت من تركيا وانتهت في لبنان. ويشير إلى أن الرسالة لاقاها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بكلمة «كانت رائعة وتؤكد ما نقوله دائمًا: الحروب لا طائل منها».
– الثانية، روحية – إنسانية، ومفادها «الدعوة إلى السلام، لا إلى العنف والانتقام»، وكذلك إلى «العيش المشترك، والتأكيد على أن التنوّع إثراء في بلداننا يجب المحافظة عليه».
لا يخفي البطريرك ساكو أن بين طيات الرسالة الثانية جزء مهم منها كان موجهًا إلى المسيحيين، بوصفهم أقليات عانت من الصراعات، وخلاصتها تقول: «هذه بلدانكم، لا تستسلموا، تضامنوا مع أشقائكم في الأوطان وكونوا علامة رجاء».
هذا الصوت يأتي من رجل يجمع بين صفة الكاردينال ورئاسة الكنيسة الكلدانية منذ العام 2013، ويُنظر إليه اليوم كأبرز مرجعية مسيحية عراقية، حملت ملف المسيحيين: تحت الاحتلال الأميركي، وفي ظلّ صعود تنظيم «داعش» الإرهابي، ثم في مرحلة زمن الميليشيات والنفوذ الإيراني. البطريرك ساكو، المولود في زاخو في العام 1949، قاد كنيسة اضطرت إلى الدفاع عن وجودها بين العنف والتطرّف والهجرة، قبل أن يدخل في مواجهة سياسية مفتوحة، حين سُحب، بضغوط ميليشياوية، مرسوم الاعتراف به كمرجع للأوقاف والممتلكات الكنسية، ثم عاد موقعه إلى التثبيت بقرار من رئيس الوزراء محمد شياع السوداني عام 2024، في اعتراف واضح بدوره على رأس الكنيسة الكلدانية في العراق والعالم.
من قلب العاصمة بغداد تقدم البطريرك ساكو عبر «نداء الوطن» نحو واحدة من أكثر القضايا حساسية في المنطقة: إسرائيل والسلام.
يختصر موقفه بعبارة قد تثير نقاشًا واسعًا، فيقول: «الكنيسة الكلدانية ليست ضدّ السلام مع الجيران»، لكنه يصوّب من خلال التأكيد على ترتيب الأولويات: «المطلوب أولًا توحيد أبناء البيت الواحد، إن كان في العراق أو في سوريا أو في لبنان. وحدة الصفّ… ولاحقاً يأتي السلام مع الجيران».
يعتبر أنه لا معنى للحديث عن تسويات كبرى في ظلّ مجتمعات مفكّكة، وأنظمة عاجزة عن إنتاج دولة حقيقية: «العالم يتجه نحو الحرب، وهذه مشكلة كبيرة». هذا الهاجس يقوده إلى التركيز على مفهوم الوحدة داخل المرجعيات الدينية نفسها، ومن هناك يدعو جميع المرجعيات إلى الوحدة، وخصوصًا المرجعيات الروحية المسيحية، لا فقط بين الأديان المتنوعة».
رسالة بطريرك الكلدان لا تتوقف عند الكنائس، بل تتجاوزها إلى المسلمين: «أدعو السنة والشيعة إلى عدم تكفير بعضهم البعض والتوحد، لأن دين الله هو المحبة». في خلفية هذا الكلام قناعة مفادها أن تفتيت البنى الدينية والمذهبية يفتح الباب أمام السلاح المتفلّت، والحروب بالوكالة، وفقدان أيّ أفق لسلام حقيقي.
وعندما ينتقل في الحديث إلى واقع المسيحيين في العراق، يتبدّى حجم الخراب الذي أصاب الدولة والمجتمع معًا، فيعود إلى التصويب مجددًا: «المسيحيون جزء من النسيج العراقي، وتربّينا ألا نتحدّث بلغة طائفية»، ما بعد سقوط نظام البعث ليس كما قبله. الوضع اليوم هش جدًا، وعلى مدى عشرين عامًا وأكثر لم تعد بوصلة مستقبل العراق موجودة. بلد بلا سيادة، بلا قانون، بلا عدالة، بلا اقتصاد قوي… كلّه تراجع مع استشراء الفوضى، وتحوّل التمثيل السياسي إلى جسر للمال والمناصب. لقد عدنا إلى العقلية القبلية… فإذا لم نعرف كيف نغفر، لن نعرف كيف نعيش؟».
في قراءته، المشكلة ليست بالانتماء الديني. بل في الثقافة السياسية: «هناك فن اسمه الدبلوماسية من أجل تحصيل الحقوق. أمّا في هذه المنطقة فالفن هو البندقية… وهذه مشكلة إضافية. السلاح المتفلّت ليس أزمة عراقية فقط أزمة لبنانية وحتى فلسطينية أيضًا. المنطقة كلها ذهبت إلى العنف بدلاً من الحوار، ظنًّا منها أنها قادرة على تحصيل حقوقها عبر الحرب ضد إسرائيل».
يصف البطريرك ساكو ميزان القوى بلا مواربة: «إسرائيل دولة مدعومة من كل دول العالم، والفلسطينيون مساكين لا حول لهم ولا قوة. أما مستقبل المنطقة فمرهون بحصر السلاح بيد الدولة ومؤسساتها، وعلى الجميع أن يعمل على تقوية المؤسسات الوطنية للدفاع عن المواطنين… لكن هذا المنطق غير موجود بعد».
وعندما يُسأل عن الميليشيات التي ترفع شعار «مواجهة إسرائيل» من لبنان والعراق، وعن احتمال استهداف الميليشيات العراقية بعد الحرب ضد «حزب الله»، يتحدث بلغة تحذير واضحة، ويقول: «كل شيء ممكن، لأن هذه الدول لا تراجع حساباتها والتحليل يحصل عاطفيًا. كيف تحارب كيانًا مدعومًا من العالم كله، أميركا تحميه وسلاحه منها ومعدّاته منها؟ عليك أن تحافظ على نفسك وبلادك وأهلك، لا أن ترمي نفسك في مجازفة غير مدروسة».
يعتبر أن الحكمة بدأت تتسلل إلى عقول الميليشيات العراقية، ويقدّر أن من هم في العراق «يتحاشون الانزلاق إلى هذا المنحدر. لكن الخطر باقٍ ما دام منطق الدولة غائبًا». وعن «حزب الله» يسأل: «كيف يتحدّث بلغة غير واقعية؟ لغة الحرب والنصر المبين، بينما إسرائيل تحصد العناصر بلا أي طائل؟»، ثم يستخلص قائلًا: «تحوّله (حزب الله) إلى حزب سياسيّ قد يحمي أبناء هذه الطائفة النبيلة أكثر من العنف، ويساهم في الحفاظ على التنوّع السني والشيعي والمسيحي».
البطريرك لا يحمّل إيران وحدها، مسؤولية السلاح المتفلت، ويقول: «ليست إيران وحدها. هناك بلدان أخرى لها مصلحة في إضعاف دولنا، مثل إسرائيل». في نظره، عوامل دولية عديدة «لا تريد لدولنا أن تقف على قدميها وتنهض»، ما يجعل من مطلب حصر السلاح بيد الدولة «معركة سيادة لا تفاضل محاور».
من بغداد إلى بيروت، تتسع رسالة ساكو لتشمل اللبنانيين مباشرة: «رسالتي إلى لبنان واللبنانيين أن يحصل حوار مسيحي – مسيحي، ومسيحي – مسلم وبقية الطوائف ومصالحة بين السياسيين اللبنانيين. لبنان بالنسبة إلى البطريرك كان «رسالة، نموذج لكلّ مضطهد يقصده للحفاظ على حياته: لبنان السياحة، لبنان التعليم والثقافة»، لكنه لا يخفي صدمته من الفوضى والفساد وما آلت إليه الأمور في وطن الأرز اليوم: «لأوّل مرة في حياتي أسمع أن جامعات تبيع شهادات من أجل الأموال… هذا التردّي سببه المصالح الضيّقة».
في المقابل، يشيد بدور رئاسة الجمهورية في تنظيم الزيارة البابوية، ويصف عملها بالجبّار»، كمات يخصّ السيدة الأولى نعمت عون بكلمات تقدير: «كانت اللولب المحرّك للزيارة»، واصفًا خطاب الرئيس جوزاف عون بـ»الخطاب الروحي والوطني المسؤول»، كما لم يخف إعجابه بحضور الرؤساء مع زوجاتهم وعائلاتهم القداس الأخير والذي عكس في نظره «مشهدًا حضاريًا متميزًا».
في خلاصة موقفه، يذكّر بطريرك الكلدان بأن ترتيب الأولويات يبدأ من الداخل: توحيد البيت، بناء الدولة، استعادة السيادة وحصر السلاح، تغيير العقلية من الثأر إلى الغفران، ومن البندقية إلى فن الدبلوماسية. عندها فقط يصبح السلام، حتى مع الجميع، احتمالًا سياسيًا واقعيًا، لا شعارًا يُرفَع في زمن الحروب ويُدفن مع أول هدنة.