كتب ألان سركيس في “نداء الوطن”:
تتداخل ملفات المنطقة بعضها ببعض. ولا يمكن فصل الملف اللبناني عن الفلسطيني والسوري. وإذا كانت بعض الدول العربية نجحت بتحييد نفسها، إلّا أن لبنان لم يسلك بعد طريق الحياد.
لو اعتمد لبنان مبدأ الحياد منذ نيله الاستقلال الأول عام 1943، لكان تجاوز عددًا كبيرًا من المطبّات والحروب. لكن لا يمكن حلّ الملف اللبناني بمعزل عن ملفات المنطقة. وشكّلت القضية الفلسطينية الضربة القاضية للوطن الناشئ، إذ ناصر عدد كبير من اللبنانيين تلك القضية على حساب شعبهم، من ثمّ أتى المدّ الإيراني بعد نجاح الثورة الإسلامية وتصديرها إلى لبنان.
بقي لبنان طوال السنوات الماضية بلدًا تعصف فيه الرياح الإقليمية والدولية، وسط انهيار الدولة، بلدًا لم ترسّم حدوده البحرية والبرّية، وما تقوم به السلطة الآن كان يجب إتمامه منذ مئة عام.
سقط نظام الأسد في دمشق، وفرح اللبنانيون قبل السوريين بهذا السقوط، وبات حلّ المشاكل العالقة أمرًا متاحًا، خصوصًا أن هذه الحلول تحظى بمظلة عربية ودولية. ولعلّ عرقلة مسألة ترسيم الحدود انطلاقًا من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، تبقى المسمار الذي زرعه نظام الأسد و”حزب اللّه” لكي لا يُسلّم “الحزب” سلاحه.
انسحبت إسرائيل بفضل الوساطات الدولية من جنوب لبنان عام 2000. وبعد رسم الخطّ الأزرق بين لبنان وإسرائيل، تمّ اختراع حجّة مزارع شبعا، وتحجّج “حزب اللّه” بأنها أرض لبنانية يجب تحريرها والاحتفاظ بالسلاح من أجلها، في حين كانت النظرية الإسرائيلية تقول أن لا دليل على لبنانيتها ولا تخضع للقرار 425.
يحاول النظام السوري الجديد تصحيح أخطاء نظام “البعث”، وأوّل الأمور الإيجابية، هو اعترافه بنهائية لبنان وحلّ المشاكل الحدودية وغير الحدودية العالقة، ومع إعلان سوريا ولبنان النيّة بترسيم الحدود، ارتفعت الآمال بحلّ مسألة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا لمرّة واحدة ونهائية وسحب الذريعة من إيران و”حزب اللّه”.
وكان لافتًا إعلان رئيس الجمهورية جوزاف عون أمام وفد “إعلاميون من أجل الحريّة” يوم الجمعة الماضي ترك مزارع شبعا للآخر، في حين أن كلّ المطالبات تنطلق من البدء بالترسيم انطلاقًا من المزارع.
دفعت تصريحات الرئيس إلى التساؤل عن السبب والخلفيات، وهل يتمّ تأجيل الموضوع خدمةً لسرديّة “حزب اللّه”، حيث سيؤثر انكشاف الحقيقة على نظريته التي حملها منذ 25 عامًا. لكن الرئيس عون أراد من خلال تصريحه التعبير عن وجود فرصة تاريخية للبنان يجب استغلالها.
وفي التفاصيل، يمثل ملف ترسيم الحدود اللبنانية – السورية مطلبًا تاريخيًا. وبعد تجاوب النظام السوري الجديد معه، لا يمكن للبنان تضييع هذه الفرصة، فالترسيم لا يقتصر على مزارع شبعا بل يشمل كلّ الحدود الشرقية والشمالية، والبحرية الشمالية.
تختلف مسألة مزارع شبعا، إذ يوجد قسم يقع ضمن السيادة اللبنانية وقسم آخر تحت السيادة الإسرائيلية، والترسيم في هذه النقطة مرتبط بتقدّم المفاوضات بين لبنان وإسرائيل وحلّ المشاكل الحدودية البريّة وعلى رأسها مشكلة مزارع شبعا.
وبانتظار تقدّم المفاوضات، لا يمكن للبنان تعليق ترسيم الحدود مع سوريا، حتى تقرّر إسرائيل حلّ هذه المشكلة، بل على الدولة اللبنانية أن تستغلّ الفرصة المؤاتية، وتبدأ بالترسيم على الحدود الشمالية والشرقية والبحريّة، إذ إن وقف الترسيم بانتظار انتهاء مشكلة شبعا هو تأخير غير مبرّر لحلّ مشكلة تاريخية بين لبنان وسوريا.
وإذا كانت سوريا متعاونة، فهذا الملف يحظى أيضًا باهتمام سعوديّ وفرنسي، ويظهر الاهتمام السعودي من خلال الاجتماعات الأمنيّة التي تحصل في الرياض بمشاركة لبنان وسوريا، والتي تضع أطر حلّ للمشاكل العالقة بين البلدين وعلى رأسها المشاكل الحدودية. ويستكمل الاهتمام بإعلان فرنسا امتلاكها خرائط عائدة إلى زمن الانتداب، بإمكانها تسهيل حلّ بعض المشاكل الحدوديّة وتسريع ترسيم الحدود.
كلّما كانت خطوات الترسيم أسرع، سلك لبنان الطريق السليم، فالمشكلة الحدودية في شبعا أصبحت تفصيلًا، والفرصة التاريخية مع سوريا يجب استغلالها وسلوك درب جديد في حلّ مشاكل لبنان التاريخية والمزمنة، ولا يحتاج “حزب اللّه” إلى مشكلة المزارع لتبرير وجود سلاحه، بل يخلق الأعذار للاحتفاظ بدويلته وإبقاء الوطن مزارع متقاتلة.