كتب سامر زريق “نداء الوطن”:
تشير معلومات حصلت عليها “نداء الوطن” من مصدرين مختلفين إلى زيارة قريبة ذات طابع سياسي سيجريها رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل إلى الرياض، وأن ترتيباتها صارت على وشك الإنجاز. هذه الزيارة، تندرج ضمن سياسة المملكة بالانفتاح على مختلف القوى السياسية واللاعبين المؤثرين في الميدان اللبناني، وتركيزها على استقطاب حلفاء “حزب الله” ضمن استراتيجية ترمي لإعادة تشكيل قواعد اللعبة السياسية وفق توازنات ومعادلات تدعم مسار الدولة الناشئ.
وتشتمل على عدة مسارات متوازية، بينها دعم رئيس البرلمان نبيه بري، بما أفضى في الآونة الأخيرة إلى اتخاذه خطوات أظهر من خلالها تموضعًا متمايزًا عن شريك “الثنائية” في مسائل حساسة، ما جعله عرضة لضغوطات قاسية. هذه الاستراتيجية، لا تعني تغيّرًا في مكانة أصدقاء المملكة وحلفائها في لبنان، وخصوصًا “القوات اللبنانية”، استباقًا للدعاية المتوقعة بهذا الصدد، بل ترتكز على تأمين الأرضية المناسبة لضمان عبور لبنان “ألغام” مرحلة انتقالية معقدة، وزيادة الضغط على “الحزب” لدفعه نحو الاندماج الجبري بمسار الدولة.
في موازاة الانفتاح السعودي على إيران منذ الاتفاق بينهما برعاية الصين، وضمن سياسة “إدارة الصراع” التي تعتمدها، تعمل الرياض على توظيف العديد من الأوراق وأدوات الضغط على طاولة التفاوض مع طهران، إلى جانب محدودية خيارات الأخيرة في وضعيتها المأزومة، من أجل دفعها للتخلي عن وكلائها عبر مخارج تحفظ لهم دور الشراكة إنما من موقع ضعيف التأثير، لكنه يبقى أفضل من الزوال، أو النزيف المستمر بلا أفق.
ضمن هذا السياق بالذات، تندرج قنوات الحوار والتواصل التي فتحتها المملكة مع حلفاء “حزب الله” في السنوات الأخيرة، والتي ازداد زخمها على وقع المتغيرات التي أفضت إليها مجريات الحرب الإسرائيلية، ومنهم “التيار الوطني الحر” الذي يدرك تمامًا حجم المأزق السياسي الذي يجبهه بعد تجربة السلطة، ولا سيما عهد ميشال عون، وما تخلّلها من محطات أفقدته الكثير من الرصيد. لذلك، حرص على إظهار التمايز عن “الحزب” خلال الحرب، وبعدها، فضلًا عن إجراء تحول في خطابه، حيث طرح منه العديد من “العنتريات” الفارغة، خصوصًا إزاء القوى الإقليمية.
يعوّل “التيار الوطني الحر” على بناء علاقة مع السعودية تكون بمثابة “قبلة حياة” تعينه على إيقاف المسار التراجعي. وإن كان لا يبالي كثيرًا بالانتقال من ضفة إلى أخرى، كما فعل مرارًا، خصوصًا حينما انتقل من معاداة “سوريا الأسد” و”الممانعة” إلى ثنائية “مار مخايل”، فإن تحوّل من هذا القبيل ستكون له أثمان غير بسيطة، على رأسها ضرورة تغيير قانون الانتخابات الحالي، والذي يقدمه كـ “إنجاز تاريخي”. قانون الانتخابات هو أساس تشكيل السلطة وتوازناتها، وكل قانون ارتبط إقراره بطبيعة موازين القوى، وما يؤمّنه من نفوذ في تركيبة الحكم، وبالتالي فإن ترجمة المتغيرات تقتضي قانونًا جديدًا.
وفي هذا الإطار، ثمة مؤشرات حيوية تثبت إعادة تموضع باسيل بنمط متدرّج، وتوجيه رسائل إيجابية للمملكة، منها تخفيض سقف “حماوة” خطابه، مع طيّ صفحة “حلف الأقليات”، والتخفيف من العداء مع السنة، والحرص على العلاقة مع دار الفتوى، وصولًا لإبداء إيجابية مستجدّة لحل مسألة “الموقوفين الإسلاميين”، والتي تتداخل بالموقوفين الذين تطالب بهم دمشق.
أواخر تشرين الأول الماضي، وخلال عشاء للمحامين قبيل انتخابات نقابتهم، قال باسيل “لا يجوز عدم حسم قضية الموقوفين الإسلاميين”. وأبدى دعمه وتياره لإقرار عفو عن الذين لم تصدر بحقهم أحكام وأمضوا في السجون فترة أكبر من المدة التي يمكن أن يحكموا بها، وكذلك عن الذين صدرت بحقهم أحكام لأسباب سياسية مرتبطة بتأييدهم أو معارضتهم لنظام الأسد.
وأكد باسيل ضرورة حل هذا الملف “احترامًا للشهداء ولشعور المكوّن السني بأن هناك استهدافًا له وهذا لا يجوز”. هذا الموقف بحدّ ذاته، يعد تطوّرًا مذهلًا في أدبيات الخطاب الباسيلي ويختزن الكثير من الدلالات في ثناياه، ولا سيما مع مزاوجته بموقفه الإيجابي من نظام الحكم الجديد في سوريا، والفصل بينه وبين قضية النازحين التي لا يزال يستثمر فيها سياسيًا بشكل لا يتناسب مع الوقائع الجدية على الأرض، لكونها من الأدوات القليلة المتبقية ضمن رأسماله السياسي لشد العصب، إلى جوار الحملات المستمرة على “القوات”، وعلى “العهد” والحكومة بدرجة أقل.
إلى ذلك، ثمة معلومات تشير إلى إمكانية أن تلي زيارة باسيل إلى السعودية، في حال نجاحها، زيارة إلى دمشق للاجتماع بالرئيس السوري أحمد الشرع، والتي يمكن أن تفتح له آفاقًا واسعة على الساحة السنية، حيث يضع رئيس “التيار البرتقالي” في حسبانه خوض الانتخابات في كل دوائر الأكثرية السنية، ومن موقع الشراكة الندية. إذ ذاك، فإن السؤال المطروح: ماذا سيفعل باسيل بتحالفه مع “الجماعة الاسلامية” والذي صار شبه منجز؟
في المحصلة، يجد “حزب الله” نفسه اليوم وحيدًا أكثر من أي وقت مضى، حتى أن أبرز وأوثق حليفيْن، بري وباسيل، اللذين كانا بتناقضهما البنيوي رأسي سلطته الهادمة لفكرة الدولة، صارا أقرب إلى السعودية، حيث يبحث كل منهما عن مستقبل الحالة السياسية التي يجسدها انطلاقًا من قناعة تمسي أكثر وضوحًا بتعاقب الأيام بأن نفوذ “الحزب” صائر إلى الزوال.

