كتب مروان الشدياق في “نداء الوطن”:
لم تكن زيارة قداسة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان بين 30 تشرين الثاني و2 كانون الأول 2025 مجرّد حدث كنسيّ كبير، ولا مجرّد محطّة على روزنامة سنة مزدحمة بالهزات. كانت، بالمعنى العميق، اختبارًا لما تبقى من فكرة لبنان: بلد يولد كلّ مرة من رماده، لأن في جذوره صلاة أعمق من السياسة، ورجاء أصلب من الخيبات. حملت الزيارة شعار “طوبى لفاعلي السلام”، لكنها في الواقع أعادت تعريف السلام لا كخطاب احتفالي، بل كخيار شاق: إصلاح، شرعيّة، عدالة، ومصالحة لا تساوم على الحقيقة.
منذ لحظة الوصول إلى مطار بيروت، بدا المشهد أبعد من بروتوكول اعتيادي: طفلان ناجيان من السرطان يقدّمان وردًا وترابًا وخبزًا وملحًا من مناطق لبنان، كأنّ الوطن يختصر نفسه في رموز الحياة اليومية: أرض تُزرع، خبز يُقتسم، وملح يحفظ المعنى من التعفن. ثمّ عبر البابا طرقات لم يعتد اللبنانيون أن يروها بهذه “الجهوزية”، إسفلت جديد وأعلام لبنانية وبابوية، وورشة درعون – حريصا التي تعطّلت سنوات عادت وتحرّكت “بسحر ساحر”. المفارقة أن اللبنانيين، بمرارتهم الساخرة، خرجوا يطالبون بزيارة سنوية للحبر الأعظم لتسريع الأشغال! غير أن السخرية هنا تخفي حقيقة واحدة: حين تتوافر الإرادة، يتذكّر لبنان أنه قادر.
على مستوى الكنيسة، لم يأتِ البابا زائرًا يميل حيث تميل الحسابات، بل أبًا يزن الأمور بميزان واحد. عدالته بين البطاركة الكاثوليك الأربعة، بلا تفرقة ولا تمييز، لم تكن تفصيلًا بروتوكوليًا، بل رسالة داخلية مباشرة: الكرسي الرسولي لا يبارك الاصطفافات، ولا يغطّي الاستقواء بالمحيط أو بالمكاتب أو بـ “المقرّبين”. ومن هنا، اكتسبت الزيارة معناها الثاني: إعادة ضبط البوصلة الكنسية نحو الخدمة لا النفوذ، ونحو الشهادة لا الإدارة الصلبة. وما يتردّد في أوساط إعلامية، وما تلتقطه مصادر “نداء الوطن”، عن تململ في روما من أداء بعض الدوائر المحيطة بالكراسي البطريركية، يفتح بابًا على سنة 2026: تغييرات محتملة، ومراجعات قد لا تتأخر كثيرًا، إذ “لا دخان بلا نار”. وإذا كانت الكنيسة لا تُدار بالشائعات، فهي أيضًا لا تغفل عن مؤشرات الخلل حين تتكرّر.
أما سياسيًا، فقد وضع البابا العناوين حيث يجب أن تكون: الدولة أولًا. من بعبدا إلى واجهة بيروت البحرية، ومن ساحة الشهداء إلى بكركي، تكرّرت الفكرة نفسها بصيغٍ متعددة: لا سلام بلا شرعية، ولا مستقبل بلا مؤسسات، ولا كرامة وطنية مع سلاح خارج قرار الدولة. وفي وداعه من المطار، قالها على نحو لا يلتبس: “الأسلحة تقتل، أمّا التفاوض والوساطة والحوار فتَبني”. هي ليست جملة عاطفية، بل موقف يلتقي مع جوهر الرسالة الدولية الداعمة للبنان: وقف الاعتداءات على الجنوب، وحماية الناس، لكن أيضًا إعادة القرار إلى كنف الدولة، لأن “القتال المسلّح لا يجلب أية فائدة”.
وسط هذا المناخ، رأى مراقبون أن أولى العلامات العملية التي تلت الزيارة تمثلت في تعيين السفير سيمون كرم رئيسًا للوفد اللبناني في لجنة “الميكانيزم”، وهي خطوةٌ قرأها البعض كترجمةٍ مبكرة لروحٍ جديدة: انتظام الدولة بدل الدوران في الفراغ، وتقديم الدبلوماسية على الارتجال. وقد أكّد البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي هذا المنحى في أول زيارة له إلى قصر بعبدا بعد عودة البابا إلى الفاتيكان، في إشارةٍ إلى أن الرسالة لم تنتهِ بالمغادرة، بل بدأت هناك.
في الخلاصة، لم تغيّر زيارة البابا لاوون الرابع عشر لبنان بين ليلة وضحاها، لكنها أعادت إلينا معيار القياس: أن نربّي القلب على السلام، كما قال في عظته الختامية، وأن نصدّق مجددًا أن “لبنان أكثر من بلد، إنه رسالة”. حين يحمل البابا لبنان في قلبه وهو يغادر، فهذا يعني أن نافذة فُتحت. يبقى السؤال: هل نجرؤ نحن، أهل السياسة والكنيسة معًا، على عبور هذه النافذة نحو دولةٍ تستحق رجاء شعبها؟

