كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:
ترحل السنون وتترك خلفها بصمات من التحوّلات والأزمات، لكن الثابت الوحيد وسط هذا التبدّل، يبقى صمود القرى المسيحية الواقعة على الشريط الحدودي الجنوبي. فعلى الرغم من الخضات الأمنية والاقتصادية والمعيشية الضاغطة، لم تنكفئ بلدات القليعة، مرجعيون، رميش، دبل، عين إبل، القوزح، علما الشعب وغيرها، بل بقيت شاهدة حيّة على عمق الانتماء اللبناني، متمسّكة بجذورها وتاريخها. هي علامة على حضور الدولة، حتى لو لم تكن حاضرة بكل هيبتها لفرض كامل سيادتها، بعد غياب طويل قسري فرضه عليها محور “الممانعة” عن سابق تصوّر وتصميم. هكذا بدا الجنوب مقسومًا إلى “جنوبين”: جنوب أنهكه نهج “المقاومة”، فبات غارقًا في الركام والخيبات والندم، وجنوب آخر حافظ على وجهه اللبناني، وراهن على مؤسسات الدولة، فنجا ولو جزئيًا من كوارث الرهانات الخاطئة التي يدفع ثمنها الجميع.
وإذا كان عاما 2023 و2024 قد شكّلا زمن الحديد والنار، والنزوح والتهجير بفعل حرب “الإسناد العبثية” التي أشعلها “حزب الله”، فإن عام 2025 حمل عنوان الصمود وإعادة ترميم الحياة في البلدات المسيحية، بما توفر من مقومات، وإرادة صلبة للتكيّف مع الواقع، في انتظار أن يستقيم لبنان على قواعد سلام دائم واستقرار حقيقي.
في المقابل، حمل خبرًا غير سارّ للجنوبيين عمومًا، تمثل بانتهاء مهلة عمل “اليونيفيل” خلال الـ 2026. فمنذ سنة 1978، شكّلت هذه القوات الدولية جزءًا أسياسيًّا من حياتهم اليومية، عبر مساهمتها في مشاريع بنى تحتية وتنمية صحية وتعليمية، وخلق مئات الفرص والوظائف التي وفرت الحد الأدنى من كرامة العيش في منطقة طالها الإهمال طويلًا.
أمام هذا الواقع، تتكثف المساعي الأوروبية لعدم ترك فراغ بعد خروج “اليونيفيل”، إذ أعربت فرنسا مرارًا عن تمسّكها ببقاء قواتها، فيما أعلنت إيطاليا، استعدادها لتولي جزء من المهمة، وسط نيّة مماثلة من دول أوروبية أخرى، لضمان استمرارية الدعم للجيش، المولج بأن يكون وحده القوة العسكرية الدائمة والوحيدة على امتداد الوطن.
إلى ذلك، يعوّل الجنوبيون على فجرٍ مختلف، أكثر إشراقًا وأقرب إلى تطلّعاتهم العميقة بالعيش الكريم في وطنٍ لا تظلّله الخنادق والأنفاق ومخازن الهلاك، مقتنعين في قرارة أنفسهم بأن أرضهم، التي طالما كانت ساحات حروب وحقول نزاعات، تستحق أن تتحوّل إلى مساحة سلام واستقرار. من حقهم أن يمرّ السلام من ديارهم ويستقرّ في بيوتهم وبلداتهم، بعد أن اجتاحت “طرقات الموت” الممتدة من “القدس إلى طهران” أمنهم الشخصي والجماعي، سلبت تطلعاتهم وأحلامهم، وضلّلت وعيهم بشعارات فارغة عن “قوة زائفة” ومشاريع تتخطّى حدود الوطن والعقل والمنطق… وحتى معنى الحياة نفسها.
يتمنون بأن يتمدّد المثل اللبناني القديم القائل: “نيّال للي عندو مرقد عنزة” من جبل لبنان إلى جنوبه. لكن هذا الحلم، كما يدركون تمامًا، لن يتحقق إلا بمخاض عسير وولادة قيصرية، ما لم يُسلّم “الحزب” سلاحه وينصاع لإرادة اللبنانيين، وتستكمل الدولة بسط سيادتها على كامل ترابها. لذا، يقف مسيحيو الجنوب اليوم على أعتاب عام جديد، محمّلين بذاكرة مثقلة بالحروب، ولكن بقلوب لا تزال تنبض بالرجاء في لبنان جديد يخلع عنه رداءه القديم، بعد أن اكتوى الجنوبيون بنار الحروب والمشاريع العابرة للحدود.