هناك معطيات تتنامى لدى بعض الأوساط: الطائف يتعرَّض لاهتزاز عنيف. تدعم ذلك ملامح الانهيار الذي تتكامل عناصره السياسية والإدارية والمالية والنقدية، والتطورات المثيرة التي بدأ يشهدها الشرق الأوسط.
إنّ الطريقة التي عرضها الوزير جبران باسيل لـ«قلب الطاولة» توحي بالكثير، خصوصاً أنّها أعقبت لقاء قيل إنّه دام 7 ساعات مع الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله. والأهم قوله: «منطلع على ساحة قصر الشعب أحسن ما نكون جالسين على أحد كراسيه، وأنت بترجع تتصرَّف متل العماد عون… يمكن أحسن من الرئيس عون».
في تقدير بعض المتابعين، هذه الرسالة تؤشّر إلى تحوُّلات يُحتمل أن تشهدها المرحلة المقبلة. وسيناريو «قلب الطاولة» المطروح يبدو وكأنه استعادة للسيناريو اللبناني بين العامين 1988 و1990، خصوصاً أنّ عناصر الأزمة ومعادلات القوة القائمة حالياً باتت شبيهة إلى حدّ بعيد بتلك التي كانت تتحكّم باللعبة في تلك الفترة.
آنذاك، فُرِض اتفاق الطائف، لأنّ مؤسسات الدولة كانت شاغرة (الرئاسة) ومشرذمة وفاشلة. وليس واضحاً إذا كانت «حرب التحرير» التي خاضها عون ضد سوريا الأسد، من موقعه في رأس السلطة (رئاسة الحكومة الانتقالية)، جزءاً من عملية التصدّي للطائف أو إنّها جزء من عملية إنضاج الظروف لطبخة الطائف.
واستتبعت الصفقة عملية تلزيم لبنان بشكل واضح ومباشر لسوريا الأسد… إلى أن تُنجَز الحلول في الشرق الأوسط (الرئيس الفرنسي جاك شيراك قالها صراحةً عام 1996، مقفلاً الباب على أصوات الاعتراض آنذاك). ولإنجاح عملية التلزيم، كان حتمياً ضرب المناعة اللبنانية ضد سيطرة سوريا، أي المسيحيين، فجرى إغراقهم (أو أغرقوا أنفسهم) في تَقاتل مدمّر لم ينتهِ إلا باجتياح 13 تشرين الأول 1990.
اليوم، عناصر الأزمة الداخلية تبدو هي إيّاها، بأشكال مختلفة: مؤسسات الدولة مشرذمة بسبب الفساد ومصادرة القرار في دولة على وشك الانهيار الشامل.
وقد تعمَّق الصراع طائفياً ومذهبياً، وسط انشقاق حادّ مسيحياً.
ما يجعل الأمر خطراً، هو أنّ المناخ الإقليمي يوحي بانقلاب في المعادلات تترجمه، خصوصاً العملية العسكرية التركية في الشمال السوري، مقابل سحب الأميركيين قواتهم هناك. وواضح أنّ الأتراك ينفذون مهمّة جرى التفاهم عليها مع الأميركيين، كما مع الروس والإيرانيين. ولذلك، هم ملتزمون الضوابط المتفق عليها كوكلاء، كما فعل نظام الأسد في لبنان على مدى عقود.
لكن الأتراك، من خلال المنطقة الآمنة التي سينشئونها لإسكان بضعة ملايين من النازحين على حدودهم، سيقيمون شريطاً حدودياً عربياً سنّياً يفصل تركيا عن الأكراد من جهة، وعن العلويين من جهة أخرى. وهذا ما يطمئن تركيا الى أنّ وحدتها ليست عرضة للاهتزاز. لكن هذا التحوّل الديموغرافي والجغرافي سيترك تداعياته على الخريطة السورية، ومنه ستنطلق مفاوضات الحل النهائي هناك.
ما حصلت عليه تركيا من الصفقة هو تسديد الضربة للأكراد. والمؤكّد أنّ شريكتها الأساسية في هذا الهدف هي إيران. فالتواصل الإيراني- التركي قائم دائماً على أرفع مستوى، وأبرز ثماره رفض الأتراك مشاركة الولايات المتحدة حصارها لإيران. وقد تعهّدت أنقرة لطهران بتوسيع خرقها للحصار الأميركي إلى الحدّ الذي يتيح لها التنفس اقتصادياً، متحدّية كل التحذيرات الأميركية.
وهذا التواصل التركي – الإيراني تمّت ترجمته في سوريا لمصلحة الرئيس بشّار الأسد، وبمباركة روسية. ولذلك، إنّ العملية التي ينفذها الرئيس رجب طيب إردوغان، لـ«تأديب الأكراد» تخدم إيران أيضاً، لأنها تقضي على حلمهم بإنشاء كيان يهدّد وحدة كل من تركيا وإيران والعراق. كما أجبرت العملية أكراد سوريا على العودة مكرهين إلى حضانة الأسد، فاستفاد أيضاً من إمساكه بالحدود مع تركيا.
وفي هذا الخضم، يبقى العرب خارج الصفقة. وفي عبارة أخرى، إنهم مادة التقاسم على الطاولة، وليسوا لاعبين وشركاء. وواضح أنّ زيارة الرئيس فلاديمير بوتين للمملكة العربية السعودية تهدف إلى إقناع قيادتها بالانخراط في المناخ السوري الجديد، حيث يرتقب الجميع تطورات دراماتيكية.
الأرجح أنّ السعوديين سيكون لهم دور في رعاية المعارضة خلال المفاوضات المنتظرة، لكن الزخم العربي في المفاوضات سيكون أضعف من الزخم التركي. فلا حصة للسعوديين ولا حضور ميدانياً في سوريا، فيما حصّة الأتراك في التسوية مضمونة، وكرّسها الحضور العسكري داخل سوريا ورعاية المنطقة الآمنة (الشريط الحدودي).
وهذه المقايضة الإقليمية- الدولية في سوريا، في لحظة الضعف العربي، ستنعكس في آن معاً على العراق ولبنان. وهنا يكمن الخطر من قلبِ المعادلات القائمة في لبنان من خلال ضرب الطائف. وربما هذا ما يقود إليه التهديد، في ذكرى 13 تشرين، بـ«قلبِ الطاولة»، أي عملياً بـ«13 تشرين» ثانية، سياسية، تشكّل رداً على الأولى، أو انتقاماً منها.
بالتأكيد، هناك أمرٌ يتبلور في الشرق الأوسط، ولا بدّ من أن يشمل لبنان. وثمة مَن يقول: قد يكون من مفارقات الأقدار أن يتبدّل النظام في لبنان مرتين خلال وجود عون في بعبدا: مرّة بفرض الطائف ومرّة أخرى بالانتقام من الطائف!
وتبعاً لمسار الأحداث، هناك مَن يتذكّر هنا قول كارل ماركس: «التاريخ يعيد نفسه مرتين. في الأولى بشكل مأساة وفي الثانية بشكل مهزلة»، فحذارِ أن نكون مقبلين على واحدة منهما أو عليهما معاً!