Site icon IMLebanon

عن جمال خاشقجي وأبعد

 

نحن بإزاء مشهدين لا مشهد واحد، وقضيتين لا قضية واحدة.

مشهد أول هو اختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وهذا ملف قائم بذاته، وهو قضية حق لشخصه وعائلته، وقضية وطنية سعودية تهم الدولة قبل سواها، بمسؤوليتها عن سلامة كافة مواطنيها ورفاهيتهم، وقضية أخلاقية، تهم كل صحافي، لا سيما من يعمل منهم في هذا الجزء من العالم، وأملي الدائم أن يتسنى لجمال، أن يقرأ هذه الكلمات قريباً.

مشهد ثانٍ هو المعركة السياسية الإعلامية الأمنية التي رُكبت على المشهد الأول، كجزء من معركة بادئة قبل قضية خاشقجي بكثير ومستمرة بعدها، وما ملف خاشقجي إلا وقود وذخيرة في سياقاتها الكثيرة. هي معركة مع السعودية الجديدة، ومع قيادتها ومشروعها، كجزء من معركة أوسع على هوية الشرق الأوسط، وخريطة النفوذ فيه، والصفات التمثيلية للمكونات اللاعبة على رقعته، وجزء من اشتباك معلن على دور الإسلام السياسي، وشكل العقد الاجتماعي بين الفرد والدولة، ومستقبل التحديث والتنمية وأولوياتها.

في المشهد الأول، رأينا السعودية الصابرة، التي لا ينفد معين الحق فيها، ولا ينضب رصيد العدل عند قادتها، رغم الحملة الشعواء ضدها. منذ اللحظة الأولى وضع قادة المملكة نصب أعينهم، وبأعلى درجات الهدوء وتحمل المسؤولية، هدف الكشف عن مصير خاشقجي، فيما كانت الاغتيالات تتوالى على شاشات إعلام العدوان على المملكة. الأهداف هم مواطنون سعوديون، وجدوا أنفسهم وأسماءهم وعائلاتهم، ضحايا عنف رمزي غير مسبوق، ألصق بهم كل أنواع التهم والمسؤوليات، لتتساقط الروايات تباعاً، وليظهر أن صور بعض من قُدموا للرأي العام كقتلة، هم مواطنون ظُلموا، وطُعنوا، وذُبحوا بمنشار التقرير والخبر والتحليل والتعليق، بلا أي حصانة أو حق في الدفاع عن أنفسهم وعائلاتهم.

في المشهد الثاني، رأينا مملكة قادرة، واثقة، لا تهن أمام الابتزاز، ولا ترضخ للتهديد، ذلك أن ما يحصل يأتي في خضم اشتباكات كبيرة في المنطقة والعالم وفي توقيت قاتل، أبرز ملامحه الانتخابات النصفية الأميركية بعد أسابيع، وهو ما نجح خصوم المملكة بإعلامهم ولوبياتهم وصانعو الضجة من أبواقهم، في استثماره أنجح استثمار.

كان الأمير محمد بن سلمان نجح في بناء علاقات استراتيجية مع البيت الأبيض. لكن موسم انتخابات التجديد النصفي للكونغرس أوجد مناسبة لمزايدات وحملات مضادة.

قبل قضية خاشقجي وبعدها، عبّرت السعودية عن موقف يجمع القوة والهدوء معاً، فكان الكلام المباشر للأمير محمد بن سلمان في مقابلته مع «بلومبرغ» دقيقاً وصارماً، حين قال إن المملكة «لن تدفع شيئاً مقابل أمنها، وهي تدفع ثمن الأسلحة الأميركية، ولا تحصل عليها مجاناً»، مؤكداً أن بلاده «تمكنت من حماية مصالحها حين كانت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما مختلفة عن الأجندة السعودية».

وفي خضم أزمة خاشقجي، وحين غاب الخطاب الانتخابي ومبالغاته وجاء وقت امتحان العلاقات السعودية – الأميركية، قال ترمب ما قاله الأمير محمد حرفياً، لافتاً نظر الصحافيين في البيت الأبيض إلى أن «إدارته فازت بطلبية قيمتها 110 مليارات دولار من السعودية، وأن الصفقة مع التعهدات السعودية الأخرى بزيادة الاستثمارات في الولايات المتحدة تساوي مئات آلاف الوظائف»، مشدداً على أن دعوات العقوبات في هذا المجال هي في الحقيقة لأن «نعاقب أنفسنا إذا فعلنا ذلك» بحسب الرئيس الأميركي.

ثم جاء مع اختلاف النبرة البيان الصادر عن مصدر سعودي مسؤول، وفيه أنه إذا «تلقت المملكة أي إجراء فسوف ترد عليه بإجراء أكبر» مذكراً بالدور السعودي المتعدد الوجوه في العالم، أمناً واقتصاداً وسياسة.

ومن خلال اعتمادها اللين والحزم في خطابها تؤكد السعودية أنها لا تسعى وراء اشتباك مع أحد، إلا من موقع الدفاع عن نفسها ومصالحها ومصالح الإقليم. وهي تدرك إدراكاً عميقاً أن وراء الاستثمار في ملف اختفاء جمال خاشقجي ما هو أبعد من قضية حق أريد بها باطل، وأن المعركة التي نحن بصددها الآن تتجاوز ادعاءات البعض الحرص على صحافي أو كاتب أو صاحب رأي أو ناشط سياسي، لديه مشروع حساس يتجاوز الرأي إلى ما هو أبعد، مع إقراري بأن هذا من حقه كإنسان.

مشهدان وليس مشهداً واحداً. هذا ما لا ينبغي إسقاطه في متابعة قضية خاشقجي، ولكل مشهد سياقه، ولكل منهما رصيده في إرث المملكة وقادتها، التي لا تعميها القدرة عن الحق، ولا يأخذها الحق إلى الضعف والهوان.