Site icon IMLebanon

عن «ترامب تركيا»

«هم لديهم الدولار ونحن لدينا رحمة الله»، بهذه العبارة خاطب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مواطنيه في أعقاب تعرض الليرة التركية لمزيد من الانهيارات. العبارة لا تطمئن من دون شك، وهي تذكر بعبارات يتلفظ بها من يلفظ أنفاسه الأخيرة، على رغم أن هذه ليست حال أردوغان حتى الآن على الأقل، لكن اختياره هذه العبارة في مثل ذلك اليوم الأليم بالنسبة للأتراك دلالة، بل دلالات. فالرجل لم يستعن بالله تعالى في يوم الانقلاب المزعوم، ثم أن علاقاته مع موسكو في سورية، ومع طهران كأحد قنوات تهربها من العقوبات، لا أثر لرحمة الله عليها.

 

 

ثمة وعي شعبوي ترامبي وإخواني في آن، وراء ما كاشف به أردوغان مواطنيه. إنها حقبة مواجهة الكوارث عبر الحد الأدنى من العقل والحد الأقصى من الدعاء الديني. رموز هذه الحقبة هم دونالد ترامب وبنيامين نتانياهو وفلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان وعلي خامنئي، ومنهم يمكن أن نتدرج إلى من هم أدنى مرتبة وأكثر تطلعاً لنزع العقل من السياسة وإحلال الدعاء الديني مكانه.

 

لا يمكن وضع إجراءات ترامب التأديبية بحق تركيا في سياق مسار واضح للسياسة الأميركية. هذه الحال هي إحدى السمات الرئيسة للسياسة الأميركية في حقبتها الترامبية. صحيح أن علاقات واشنطن وأنقرة ليست في أحسن أحوالها، إلا أنها لم تصل إلى مستوى اللعب بمصائر الأنظمة، أو هذا ما يلوح لعاقلٍ. لكن تفسير ما يجري الآن ليس مهمة العقلاء على ما يبدو. يمكن لهؤلاء أن يراقبوا وأن يُذهلوا من دون أن يقتربوا من التحليل. أنقرة عضو في الناتو وحليفة موسكو في سورية، ولدى موسكو تفويض من ترامب لإدارة مستقبل سورية وحماية الحدود مع إسرائيل، وكل هذه المهام يعوزها رجل كأردوغان، كان من المفترض أن يستعين برحمة الله لردم الهوة الأخلاقية الناجمة عن سياساته، وإذ به يستحضرها في مواجهة شبيهه وقرينه دونالد ترامب.

 

الليرة التركية في تداعيها لن تأخذ معها أردوغان فحسب. تركيا أكبر بكثير من ذلك الرجل، ونحن هنا نتحدث عن الاقتصاد الأكبر في الشرق الأوسط، وعن الدولة التي تتوسط بين هذا الشرق وبين أوروبا، وعن لحظة تتهدد فيها تجارة النفط والملاحة والعلاقات بين الدول والاقتصادات. في هذه اللحظة قرر دونالد ترامب أن يوجه ضربته إلى خصمه وشبيهه، وفي هذه اللحظة قرر هذا الخصم أن رحمة الله ستتولى مهمة دفع الخطر عنه.

 

لا سياق لهذا الاختناق سوى أننا في مرحلة انعدام العقل أو ذوائه. ترامب رئيساً للولايات المتحدة ورئيساً للعالم، يعني أن أميركا بلا عقل والعالم بلا عقل. وهذا العقل لن يقوى على تفسير ما يجري إلا إذا ابتعد مسافة عن نفسه وأطلق خيالاً أحل فيه جموح الرؤساء محل عقولهم ومحل مصالح بلادهم. لقد سبق أن فعلها ترامب الشهر الفائت عندما قرر أن يعاقب الغرب وأوروبا عبر رفع الضرائب أيضاً على الصادرات إلى أميركا، لكن الفارق تمثل في أن أوروبا لا يمكنها أن تكون بلا عقل، فتعاملت مع جموح الرئيس بقدر من العقلانية الخائبة، قدمت فيها مصالحها على كرامتها. أما لجوء التركي الطيب إلى رحمة الله فهو مؤشر لاحتمالات أخرى. وإذا عُدنا إلى سوابق أردوغانية في التعامل مع واشنطن واستحضرنا قضية القس الأميركي أندرو برنسون بصفته رهينة في تركيا لمفاوضة واشنطن على تسليم الداعية فتح الله غولن لأنقرة، فهذا يعني أننا لسنا حيال معادلة ترامب مقابل أنغيلا مركل، بل نحن في لحظة يقف فيها ترامب الكبير في مقابل ترامب الصغير، والجولة لن تكون مضمونة النتائج على رغم أن الكارثة ستكون حتمية.