بعد أسبوع من تأكيد ونفي مسألة تبني «القاعدة في اليمن» (القاعدة في جزيرة العرب) الهجوم على مجلة «شارلي إيبدو»، تبنّى التنظيم الهجوم رسمياً، يوم أمس، مثيراً بذلك جملة من التساؤلات، لا شكّ في أنها ستؤطر مرحلة جديدة من اتجاهات وآليات الاستراتيجيات الدولية، ضمن ما يُسمّى منذ أكثر من عقد، «الحرب على الإرهاب».
منذ لحظة وقوع الهجوم على «شارلي ايبدو»، كثر الحديث عن وقوف تنظيم «القاعدة في اليمن» خلفه. فإلى جانب إعلان أحد الأخوين سعيد وشريف كواشي، الانتماء إليه في مقابلةٍ سبقت مقتلهما يوم الجمعة الماضي، كُشفت صلاتهما بالتنظيم في اليمن الذي زاراه بين عامي 2009 و2011، حيث تدربّا وتلقيا دروساً دينية على يد «القاعدة»، وقابلا أحد زعمائه الأكثر تأثيراً، أنور العولقي، الذي قتل قبل ثلاثة أعوام.
غير أن إعلان أحمدي كوليبالي، قاتل شرطية فرنسية ومنفذ الهجوم على متجر «كوشر» اليهودي، انتماءه لـ «داعش» وتنسيقه مع الأخوين كواشي، في عدد من المقاطع المصورة، دفع بالإعلام الغربي في اليومين الماضيين، إلى تسجيل أول عملية مشتركة بين «القاعدة» و«الدولة الإسلامية»، «العدوين المتحاربين في سوريا». وسائل إعلام عديدة رجعت إلى أصول الخلاف بين التنظيمين، مستعرضةً «تنافس زعيم القاعدة أيمن الظواهري وزعيم داعش أبو بكر البغدادي، على زعامة شبكة الجهاد الدولي». سعت بعض الصحف إلى طرح فرضيات، تمكّنها من فهم ما تعتقد أنه «غير اعتيادي»، بعدما باتت شبه متأكدة من أن «القاعدة وداعش اجتمعا في باريس». بعضها، كموقع «ذا دايلي بيست» الأميركي، رأى أن التنسيق والعمل بين أعضاء التنظيمين قد يكونان متواصلين، برغم العداوة بين القيادتين وخلافهما الايديولوجي. وينقل الموقع عن مسؤول في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية قوله: «حين يتعلّق الأمر بكراهية الغرب وبالهجمات على أهداف غربية، تسقط الخلافات، وخصوصاً بالنسبة إلى المقاتلين».
لكن معظم التحليلات التي سبقت الإعلان الأخير لـ«القاعدة»، رجّحت أن تكون علاقة المهاجمين الثلاثة بالتنظيمين، تقتصر فقط على «تأثر بأفكار ومبادئ من دون تكليف مباشر للقيام بالهجوم»، وأن الأخوين كواشي وأحمدي كوليبالي، قاموا «بأعمال إرهابية فردية»، لكنهم أرادوا إعطاءها بعداً دولياً وتنظيمياً أوسع.
صحيفة «ذي إندبندنت» ذهبت في هذا الاتجاه، واستندت إلى كون الفيديو الذي يُظهر كوليبالي مبايعاً «داعش»، يبدو من صنع هاوٍ، ولا يشبه النمط الذي تعتمده الوحدة الإعلامية في التنظيم. رأي وزير العدل الأميركي، إريك هولدر، الذي سبق تبني «القاعدة»، يدعم هذه الفرضية أيضاً، حيث أشار إلى أن الثلاثة قد يكونون مما يسمى «الذئاب الوحيدة» (lone wolves)، أي الأفراد أو المجموعات الصغيرة الذين يحصلون على السلاح، ليشنوا هجمات مماثلة لما حصل في باريس أخيراً.
بعدما سوّقت السياسة الخارجية الأميركية في الآونة الأخيرة لكون «داعش» قد حلّ محل «القاعدة» في صدارة «الإرهاب»، وأن أيمن الظواهري فقد السيطرة على «الشبكة الدولية للإرهاب» لحساب أبي بكر البغدادي، يرى كثيرون اليوم أن الجريمة الفرنسية تبعث «القاعدة» من جديد، من دون أن يخفوا استغرابهم لاشتراك التنظيمين في عملية واحدة.
ولكن فات معظم المصدومين من تنسيقٍ مزعوم بين التنظيمين، أن «القاعدة في اليمن» أعلن أكثر من مرة، في الأشهر الماضية، تأييده لـ «الدولة الاسلامية» من دون أن يبايعه، وخصوصاً في البيانين اللذين تليا إعلان «الخلافة» ثم أولى عمليات «التحالف الدولي»، في أيلول الماضي، حين أعلن التنظيم دعمه لـ«الدولة» ضد «الحملة الصليبية» عليه.
هي ليست المرة الأولى التي يجري فيها استحضار «داعش» إلى الملف اليمني، عبر «القاعدة» المتمركز في بعض محافظات جنوب اليمن. ولحين جلاء صورة نتائج الهجوم الباريسي على المنطقة، لا ضير في التذكير بأن اليمن يخضع لاستراتيجية أميركية لـ«مكافحة الإرهاب» منذ عام 2002، ترتكز على غارات لطائرات من دون طيار على معاقل التنظيم وقادته، قتلت مدنيين يمنيين أكثر مما نجحت بقتل عناصر من التنظيم. واليوم، يتوسّع التنظيم في المشهد اليمني الداخلي، حيث يقدّر عدد عناصره بألف مقاتل بعدما كان بضع مئات قبل 5 سنوات، ويغرق في معارك مع «أنصار الله» (الحوثيون) في وسط البلاد، من ضمنها تبنّي سلسلة من التفجيرات في الآونة الأخيرة استهدفت الحوثيين والدولة، كان آخرها تفجير كلية الشرطة في صنعاء الذي قُتل فيه أكثر من 37 شخصاً (وقع يوم الهجوم على «شارلي ايبدو» وبالكاد نال تغطية إعلامية).
تعيد باريس «القاعدة» إلى المشهد الدولي مجدداً. وإذا أردنا التكلّم بلغة السياسة الأميركية، وإن سلّمنا بحقيقة المشهد قيد التشكّل أمامنا اليوم، فذلك يعني أن «القاعدة» في اليمن لا يزال قوياً وقادراً على تنفيذ عمليات بمهارة تهزّ الرأي العام الدولي، على الرغم من ثلاثة عشر عاماً من «مكافحته» في اليمن. ويأتي ذلك، ليغيّر كثيراً في «الرواية الرسمية» للإدارة الأميركية عن استراتيجيتها في اليمن، التي لم يتوانَ الرئيس باراك أوباما في أيلول الماضي عن إعلانها نموذجاً يحتذى للاستراتيجية المرتقبة آنذاك، في العراق وسوريا. ومن دون أن تتضح حتى الآن، التداعيات التي ستُبنى على كل هذه الصور، لعلّ تحليل الباحث الاميركي، روبن سمكوكس، في صحيفة «وول ستريت جورنال»، يفي بالغرض في هذا الإطار، وإن بصورةٍ مؤقتة: «الغرب لا يستثمر على نحو كافٍ في حربه ضد القاعدة في اليمن، ولا في مستقبل هذا البلد ككل. بات من الضروري اعتماد استراتيجية جديدة. ووضع حدّ لهجمات إرهابية، كالتي وقعت في صنعاء الأسبوع الماضي، سيساعد على تجنّب هجمات كالتي وقعت في باريس في اليوم نفسه».