في يوم الاحتفال بعيد ميلاده وعشية الاحتفالات بعيد الميلاد ورأس السنة أعلن البابا فرانسيس في 17 كانون الاول الجاري قداسة الام تيريزا (1910-1997) لتُضاف الى غيرها من القديسات، وذلك بعد أن قامت الكنيسة بتطويبها في 2003. وفي هذه الحالة كان الأمر يحتاج الى إقرار رأس الكنيسة بمعجزة لها حتى يتم الاعتراف بالأم تيريزا كقديسة، وهو ما احتسب لها في حالة مريض برازيلي يبلغ من العمر 35 سنة كان في حالة احتضار نتيجة لمعاناته من ورم في الدماغ ثم شُفي في 2008 بعد ان بادرت الام تيريزا الى الابتهال الى الله لشفائه حسب رواية الكنيسة.
وقد جاء هذا القرار المفاجئ بعد سنوات من النقاش إثر نشر الرسائل الخاصة للأم تيريزا في 2007، التي كشفت فيها عن أزمات عقيدية كانت تنتابها من حين الى آخر وكانت توصلها الى الشك بأن الله قد تخلى عنها.
ولكن الخبر الجديد سرعان ماغطى ألبانيا المجاورة، التي عاشت وتوفيت فيها أم وأخت الأم تيريزا، وعايشته كأنه هدية البابا لهم بمناسبة أعياد رأس السنة على الرغم من الطابع العلماني الذي يميز الدولة الألبانية منذ أول دستور لها (1914)، حتى أن الحكومة الألبانية الاشتراكية التي تحكم ألبانيا منذ 2013 رحبّت على لسان وزيرة الدفاع ميمي كورذيلي بـ»هذا الخبر الرائع الذي حملته الدقائق الاخيرة عن امرأة ألبانية عظيمة».
ولكن الخبر المفاجئ لم يشمل ألبانيا فقط بل كوسوفا ذات الغالبية الألبانية المسلمة (95%) التي تنتمي اليها أسرة الأم تيريزا، وكذلك جمهورية مكدونيا التي ولدت الام تيريزا في عاصمتها سكوبيه وأقامت لها متحفا في قلب المدينة على بعد نحو مئتي متر من البيت الذي ولدت فيه 26 آب 1910. ولذلك فإن هذه الدول الثلاث المجاورة (ألبانيا وكوسوفا ومكدونيا) ستجد مناسبة أخرى لتتنافس فيها بشأن القديسة تيريزا التي ولدت باسم غانجة بوياجي.
فقد كانت أسرة بوياجي من الأسر المعروفة في مدينة بريزرن التي كانت عاصمة ولاية كوسوفا العثمانية قبل أن تنتقل عاصمة الولاية الى سكوبيه، حيث استقرت الاسرة هناك في مطلع القرن العشرين وولدت هناك غانجه في 1910 أي قبل سنتين فقط من نهاية الحكم العثماني. ولكن بعد سنتين فقط اندلعت حرب البلقان وضمّت صربيا مكدونيا ثم اشتعلت الحرب العالمية الاولى وصولا الى تأسيس يوغسلافيا في نهاية 1918، وبذلك كانت غانجه قد عايشت ثلاث دول. وقد كشفت غانجه عن مواهب متعددة خلال دراستها في المدرسة الثانوية، حيث كانت تحلم بأن تكون معلمة وأن تكتب الشعر وتعزف الموسيقى. ولكن بعد وفاة والدها المبكرة قررت أن تصبح راهبة والتحقت بدير راهبات «أخوية لوريو» في ايرلندا، ومن هناك ذهبت الى كالكوتا حيث أسست هناك جمعية «راهبات المحبة» وانشغلت بمساعدة الفقراء والمرضى.
وفي غضون الحرب الحرب العالمية الثانية انهارت الحدود مرة أخرى وجرى ضمّ كوسوفا الى ألبانيا خلال 1941-1945، حيث انتقلت أمها «درانه» وأختها «آغه» بوياجي الى تيرانا عاصمة ألبانيا بينما انتقل أخوها لازار الى ايطاليا التي كانت تحكم في الواقع ألبانيا وكوسوفا. وفي تلك السنوات بدأت غانجه تشتهر في الهند باسم الام تيريزا بينما كانت أختها في تيرانا تشتهر كمذيعة في «صوت تيرانا» الذي أصبح يسمع في كل مكان خلال الحكم الشيوعي 1945-1990.
ولكن البعد بين الأم والأخت في ألبانيا والام تيريزا في الهند لم يعد جغرافيا فقط بل ايديولوجيا أيضا، حيث أن النظام الحاكم في ألبانيا كان قد أصدر في 1967 مرسوم «الغاء الدين» وأعلن ألبانيا «أول دولة الحادية في التاريخ». ولذلك لم تستطع الام تيريزا أن تدخل ألبانيا بثوبها المميز في 1974 للمشاركة في دفن أمها لان السلطات الألبانية لم تمنحها تأشيرة دخول باعتبارها هندية. ولكن مع بروز البابا يوحنا بولس الثاني وحصول الام تيريزا على جائزة نوبل في 1979 بدأت ألبانيا تتعرض للضغوط من الداخل والخارج، حيث أن تصريح الام تيريزا بمناسبة حصولها على جائزة نوبل كان بمثابة الشرارة الذي نسفت الحدود «أنا ولدتُ في سكوبيه وأعيش في كالكوتا وأعمل لأجل فقراء العالم، أما وطني فبلد صغير اسمه ألبانيا». وهكذا اضطرت السلطات الألبانية الى منحها أول جواز سفر ألباني (دبلوماسي) يعطى لأجنبي من أصل ألباني، وهو ما فتح الطريق أمامها لزيارة ألبانيا في 1989 ولقاء الرئيس رامز عليا مع أن ألبانيا كانت لاتزال «أول دولة الحادية في العالم»، تلك الزيارة التي جاءت في خضم ربيع أوروبا الشرقية الذي شمل أخيرا ألبانيا أيضا.
ومع أن ألبانيا تعلمنت كدولة منذ دستورها الاول وكمجتمع نتيجة الحكم الشيوعي الطويل 1945-1990 وعودة الحزب الاشتراكي (وريث الحزب الشيوعي) الى الحكم في 1997، إلا أن ألبانيا العلمانية لم تتوقف عند المعجزة التي نُسبت للام تيريزا بل احتفلت بها كأول قديسة ألبانية.
