مانعة الوقائع سياسة انتحارية. وحسب الحكمة الصينية القائلة “فتش عن الحقيقة في الوقائع”، فلا مهرب من قوة الحقيقة والتحوّلات المتسارعة التي جرفت ما عمل له الممانعون على مدى أربعين عامًا. لا بالإنكار، ولا بالمكابرة والسعي لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء بسلاح أخرجه التفوّق التكنولوجي من اللعبة. لبنان لم يعد حلقة في سلسلة كانت تمتدّ حلقاتها من غزة إلى طهران عنوانها ولاية الفقيه، وشعارها مقاومة إسرائيل وأميركا، وترجمتها الجيوسياسية هي إقامة مشروع إمبراطوري إيراني. وهو اليوم مقطورة مثل البقية في قطار سلام وتنمية في الشرق الأوسط يقوده الرئيس دونالد ترامب. وكما كان أي تغيير في أي حلقة يخربط السلسلة الإيرانية، فإن أي تعثر في أية مقطورة يوقف القطار الأميركي.
ومن هنا نبدأ، بصرف النظر من أين ننتهي. لا إصرار العرب والغرب على سحب السلاح من “حزب اللّه” هو على قياس لبنان وحده. ولا تمسك إيران و”الحزب” بالسلاح هو من أجل لبنان بعدما أدى السلاح الذي حرر الجنوب عام 2000 إلى إعادة الاحتلال الإسرائيلي عام 2024 بسبب غلطتين استراتيجيتين: “حرب الإسناد” وحرب سوریا. ولا حرب إسرائيل على “حزب اللّه” هي من أجل اللبنانيين الرافضين للحفاظ على سلاح خارج الشرعية ولتحدي قرار مجلس الوزراء. فاللعبة واسعة وشاملة. مشروع إيران الإقليمي يقترب من النهاية ومعه أسلحة التنظيمات المذهبية المرتبطة بالحرس الثوري، وإن أوحى المرشد الأعلى علي خامنئي أن الجمهورية الإسلامية “منتصرة” ولا قوة قادرة على طي مشروعها. ومشروع سلام الشرق الأوسط دخل مرحلة ما بعد البداية، وإن بدا في حاجة إلى حروب أخرى.
والسؤال ليس لماذا يعلن “حزب الله” أنه استعاد قوته وهزم إسرائيل حين منعها من تحقيق أهدافها في إنهاء “المقاومة الإسلامية”، ويستعد للرد على اغتيال رئيس أركانه هيثم علي الطبطبائي بل ما الفائدة من وجود رئيس أركان، وما جدوى السلاح بعد تجربة الدمار الشامل في “حرب الإسناد”. وجواب “الحزب” أن المقاومة مسار دائم، وأن ترك المسؤولية للدولة والخيار الدبلوماسي فشل، وعلى لبنان “اختيار مسارات أخرى”. وجواب الوقائع هو أن مسار المقاومة فشل، ومرحلة “المقاومة الإسلامية” انتهت في لبنان بقرار سحب السلاح قبل تنفيذه، وانتهت في المنطقة مع المشروع الإقليمي الإيراني بقوة التحولات المتسارعة.
وليس ما يقود إليه التسلح من جديد استعدادًا لقتال مؤجل مع إسرائیل سوى حرب إسرائيلية معجلة تدمر لبنان كله هذه المرة. والاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ في الجنوب ليس الحجة للاحتفاظ بالسلاح وزيادته. فالتسلح وصل إلى الذروة، وتحول “حزب الله” إلى جيش من دون أن يكون هناك احتلال. الحجة هي مواجهة الخطر الصهيوني. وما دام الخطر دائمًا تبعًا للحسابات الإيديولوجية وحتى الاستراتيجية المتعلقة بإقامة “شرق أوسط إسلامي” بقيادة طهران كما قال المرشد الأعلى ردًا على مشروع “الشرق الأوسط الأميركي”، فإن المقاومة دائمة. أما الموقت فإنه لبنان على الرغم نص الدستور على أنه “وطن نهائي لجميع أبنائه”.
والمفارقة أن من يحذر من حرب إسرائيل المدمرة ويتخوف منها على لبنان يوضع في خانة “الخائن” ومن يتسبب بالحرب يوضع في خانة “الوطني”. والظاهر أن إيران وإسرائيل تلتقيان على نقطة واحدة: الربح من الفوضى وتدمير لبنان.
و”الوقت لا يرحم الأمور التي لا تتم في أوانها”.
