قد تكون الدلالات والأبعاد المالية التي ارتسمت أمس في آفاق الأزمة السياسية الداخلية هي الاكثر اثارة للقلق، خصوصاً ان المعلومات التي كشفت من لندن وليس من بيروت عن ارتفاع كلفة ديون لبنان السيادية تعكس عودة المحاذير المالية الخارجية حيال الواقع اللبناني، وقت تتخبط الطبقة السياسية الرسمية والحزبية عموماً في عجز فاضح عن مجرد اتفاق لاعادة تعويم جلسات مجلس الوزراء. ولم تقتصر ظواهر هذا العجز ومفاعيله على نشوء تطور مالي سلبي فحسب، بل تمددت في اتجاه “مشروع” أزمة باردة بين رئاستي الجمهورية والحكومة يخشى ان لم تستدرك بسرعة ان تفاقم المناخات المحتقنة أساساً جراء اصطدام كل المحاولات والمساعي والوساطات لفصل ملف حادث قبرشمون وتداعياته القضائية والسياسية عن الواقع الحكومي بالعقبات المتواصلة التي حالت حتى الآن دون التوصل الى توافق يتيح لرئيس الوزراء سعد الحريري تحديد موعد لانعقاد مجلس الوزراء من غير أن يخشى تفجر الحكومة من الداخل.
والواقع ان التداعيات المالية الخارجية للازمة السياسية تقدمت المشهد الداخلي أمس عقب تراجعات متعاقبة للجهود الداخلية المبذولة من أجل تفعيل جلسات مجلس الوزراء، لكن العامل اللافت في بروز هذه التداعيات تمثل في تحميل الرئيس عون تبعة رفع التأمين على الديون السيادية بسبب موقف اتخذه سرعان ما رد القصر الجمهوري بنفيه ونفي مسؤولية الرئاسة عنه. وكانت وكالة “رويترز” أوردت معلومات من لندن مفادها ان كلفة التأمين على ديون لبنان السيادية ارتفعت الى مستوى قياسي أمس الجمعة بعدما حذر الرئيس ميشال عون من مغبة ما يمكن ان تفرضه المؤسسات الدولية من اجراءات مالية قاسية ما لم يتم تقديم تضحيات لانقاذ البلاد من أزمتها. وأفادت الوكالة ان بيانات “آي. اتش. اس ماركت” أظهرت ان عقود مبادلة مخاطر الائتمان اللبنانية لخمس سنوات ارتفعت الى 990 نقطة أساس بزيادة 33 نقطة أساس عن إقفال يوم الخميس. ولفتت الى ان عون كان أثار الخميس على ما يبدو احتمال اضطرار لبنان الى اللجوء الى صندوق النقد الدولي للحصول على المساعدة اذا لم تثمر جهود الاصلاح التي تبذلها الحكومة تحسن المالية العامة للدولة بالقدر الكافي.
ورد مكتب الاعلام في رئاسة الجمهورية على هذه المعلومات ببيان أصدره بعد الظهر وجاء فيه: “نقلت وكالة “رويترز” في خبر لها من لندن، كلاماً فسرت فيه على نحو خاطئ ما جاء في كلمة فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في حفل تخريج الضباط، حول التضحيات التي ينبغي ان يقدمها اللبنانيون للمساعدة في انهاض الاقتصاد الوطني. ان مكتب الاعلام في رئاسة الجمهورية ينفي نفياً قاطعاً ان يكون رئيس الجمهورية أشار في كلمته الى “امكان الاستعانة بصندوق النقد الدولي للحصول على المساعدة اذا لم تثمر جهود الاصلاح التي تبذلها الحكومة تحسن المالية العامة للدولة بالقدر الكافي”، كما جاء في خبر “رويترز”، ويحذر من مغبة تعميم مثل هذه الاخبار المختلقة، خصوصاً ان ما نشرته “رويترز” أحدث تداعيات سلبية على السندات السيادية للدولة اللبنانية وكلفة التأمين عليها. ان مكتب الاعلام في رئاسة الجمهورية يجدد التأكيد ان ما قصده رئيس الجمهورية في كلمته أمس، هو دعوة اللبنانيين من دون استثناء الى التضحية مرحلياً والتخلي عن بعض المكتسبات لئلا نخاطر بفقدها كلها، وذلك للمساعدة في مواجهة الازمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية القاسية التي تمر بها البلاد، وبالتالي لا يمت كلام الرئيس بأي صلة الى ما ذهبت اليه وكالة “رويترز” في استنتاجاتها الخاطئة”.
بين بعبدا والسرايا
وتزامن هذا التطور مع تطور سياسي آخر عكس بلوغ أزمة تعليق جلسات مجلس الوزراء مستوى من الخطورة من شأنه ان “يلسع” العلاقة بين رئاستي الجمهورية والحكومة. واذ حذرت مصادر وزارية معنية من ان النفخ التواصل في الازمة وافتعال العقبات والحواجز والذرائع لمنع فصل معالجات حادث قبرشمون عن الوضع الحكومي بدأ يدفع بالبلاد نحو أزمة كبيرة جداً بل أخطر مما يتراءى لكثيرين، رسم سجال ضمني بين قصر بعبدا والسرايا ملامح تفاعل سلبي للمرة الاولى بين الرئاستين منذ حصول حادث قبرشمون. وأوضحت معلومات غير رسمية ان الرئيس عون بادر، من موقعه وصلاحياته ولا سيما الفقرة 12 من المادة 53 من الدستور، الى اجراء اتصال برئيس الحكومة سعد الحريري، بعد بلوغ الوضع حداً خطيراً من تعطيل السلطة الاجرائية ومصالح الناس والخدمات والادارات والمؤسسات، وبعد استنفاد كل الحلول والمبادرات في شأن حادث البساتين، طالباً منه الدعوة الى عقد مجلس الوزراء في أقرب وقت ممكن من منطلق ان مجلس الوزراء مجتمعا هو السلطة التي تطرح لديها كل الخلافات والاشكالات السياسية والامنية، وان رئيس الحكومة وعد بعقد جلسة في بدايات الاسبوع المقبل.
لكن مصادر “المستقبل” ردت ضمناً بأن رئيس الوزراء تابع مشاوراته لمعالجة تداعيات أحداث قبرشمون، وتلقى اتصالاً في هذا الشأن من رئيس الجمهورية الذي طالب بعقد جلسة لمجلس الوزراء في أسرع وقت، كما كان على تواصل مع الرئيس نبيه بري وقيادات تعمل على خط رأب الصدع في الجبل وايجاد مخارج سياسية للمشكلة. وأكد مصدر حكومي مطلع ان الرئيس الحريري يدرك صلاحياته تماماً وهو يتحملها على اكمل وجه، وقد سبق له ان وجه رسائل مباشرة وغير مباشرة الى كل المعنيين، بوجوب انعقاد مجلس الوزراء، وفك الاشتباك بين العمل الحكومي ومصالح المواطنين وبين الخلاف المحتدم في الجبل والذي يتطلب حلولاً سياسية وأمنية وقضائية واقعية على خطوط الاتصال بين مختلف القيادات. غير ان اصرار البعض على ربط مصير العمل الحكومي بمشكلة الجبل والكلام التصعيدي المستمر منذ أسابيع والعراقيل التي اعترضت مبادرات اللواء عباس ابرهيم، امور تدفع الرئيس الحريري الى التزام حدود المصلحة الوطنية ادراكاً منه للمخاطر التي ستترتب على أي خطوة ناقصة في هذه المرحلة الدقيقة. وقال المصدر، ان الرئيس الحريري يتطلع إلى تحريك الجهود السياسية لتحقيق المصالحة وتوفير مقتضيات الأمان السياسي لانعقاد مجلس الوزراء في أسرع وقت، وهو لن يتأخر لحظة واحدة عن هذه الدعوة، والتي باتت ملحة، فور التوصل الى تحقيق انجاز ملموس نحو المصالحة.
ورد مصدر وزاري مقرب من رئيس الجمهورية على المصدر الحكومي، فاستغرب ربط الحريري انعقاد مجلس الوزراء بتحقيق انجاز ملموس بمصالحة بين وليد جنبلاط وطلال ارسلان، معتبراً ان مجلس الوزراء يجب ألا يربط باتفاق ثلاثة وزراء يمثلون فريقيْ نزاع في الحكومة أي الحزب التقدمي الاشتراكي والحزب الديموقراطي. وقال: “نتفهم حرص الحريري على الحكومة ونشاطره هذا الحرص لكن لبنان دولة وليس عشيرة”. وأضاف ان “رئيس الجمهورية يعتبر ان مجلس الوزراء مجتمعاً أصبح يمثل بعد اتفاق الطائف السلطة الإجرائية التي تطرح لديها كل الخلافات والإشكالات السياسية والأمنية. واذا لم تحل تداعيات حادث البساتين على طاولة هذه السلطة فأين يكون الحل لها؟”. وأوضح “الرئيس عون، حتى لو طلب احالة حادث البساتين على المجلس العدلي من خارج جدول الاعمال، فهذا الحق تعطيه إياه المادة ٥٣ من الدستور في الفقرة ١١، ومن يريد التصويت عند طرحها فليصوت ومن يريد الخروج من الجلسة فليخرج. فالحكومة يجب ان تجتمع بسرعة لإنجاز متطلبات مؤتمر سيدر وتعيينات المجلس الدستوري ونواب حاكم مصرف لبنان، وغيرها من الملفات الملحة”.
وبدأ هذا التطور يثير تفاعلات بين الوزراء، فأعلن وزير الصناعة وائل أبو فاعور “أن رئيس الحكومة سعد الحريري هو صاحب العلاقة والقرار والتقدير في هذا الشأن وهو من يدعو الى جلسة مجلس الوزراء، وهذه العلاقة مرتبطة برئيس الحكومة لا يمكن أن ينازعه بها أحد، ننتظر و ندعم أي قرار يتخذه رئيس الحكومة بهذا الخصوص”.
بينما أكد وزير الدفاع الياس بو صعب “أن ما من أحد يتعدّى على صلاحية رئيس الحكومة ولكن ليس مقبولا أن يتطاول أحد على رئيس الجمهورية المؤتمن على الدستور”. وقال: “ممنوع أن يقول أحد لرئيس الجمهورية لماذا تطالب بعودة سير الأمور في الوطن ونحن أول المطالبين بعودة إجتماع الحكومة”.
