Site icon IMLebanon

العائدون من الفضاء إلى كوكب آخر

 

كيف سيبدو كوكب الأرض هذه الأيام لو نظرت إليه من الأعلى؟ من مركبة فضائية مثلاً أو من كوكب آخر، مثل تلك الكواكب التي وطأتها قدم الإنسان أو تجوّل في فضائها؟ كيف ستبدو شوارع المدن الفارغة من عابريها؟ والمعالم السياحية الواقفة مثل الأطلال؟ والأبنية المتلاصقة التي يخيم عليها السكون، وكأن أهلها قاموا ببنائها في زمن ما للإقامة فيها، ثم تحولت إلى أوكار يختبئون داخلها خوفاً من عدو مجهول يتجول بين الأحياء؟

خطرت لي هذه الأسئلة بينما كنت أقرأ خبر هبوط محطة الفضاء الدولية في بايكونور في جنوب كازاخستان صباح الجمعة الماضي. نزل الرواد منها ليجدوا أن كل شيء على كوكب الأرض قد تغير. لا عناق. لا مصافحات. أجساد بشرية متباعدة عن بعضها. أفواه وأنوف مغطاة بالكمامات. مشهد لأهل الكوكب لم يعرفه الرواد الثلاثة منذ غادروا على مركبتهم قبل ستة شهور. كانت الحياة عادية في ذلك الزمن، وكانت الاحتياطات الصحية تتخذ عادة لحماية من يغادرون الأرض لاكتشاف الكواكب الأخرى. الآن صار الأمر معكوساً. صارت الإجراءات المتخذة على الأرض أقسى مما يعانيه الرواد داخل مركبتهم، حيث لا حاجة ولا إمكان للتباعد، وحيث إجراءات الوقاية محدودة بزمن معين يعرفون متى ينتهي.

لهذا فوجئ الرواد الثلاثة، الأميركيان أندرو مورغان وجيسيكا ماير، والروسي أوليغ سكريبوشكا، بالفنيين في المحطة الأرضية التي هبطوا فيها وهم يخفون وجوههم خلف الأقنعة ويغطون أيديهم بالقفازات. أما الفريق الطبي المكلف بالاعتناء بالرواد وبإعادة تأهيلهم للحياة على الأرض، فقد فرض عليه حجر صحي كامل ومراقبة طبية على مدى شهر، للتأكد من خلو أفراده من الإصابة بـ«كوفيد – 19»، الاسم الفني للوباء الشهير. مشهد كان في الماضي معكوساً. كان الذاهبون إلى الفضاء هم الذين يحتاجون إلى الوقاية والانعزال وتطهير اليدين. وكانت الأرض قبل «كورونا» صالحة لإقامة البشر واختلاطهم، فيما الفضاء الخارجي هو العالم المجهول الذي نحتاج إلى الوقاية منه. لذلك لم يكن غريباً أن تلاحظ جيسيكا ماير أن العودة إلى الأرض كما هي عليه الآن أمر صعب. ومن خلال تجربتها تنصح المنعزلين في بيوتهم بالعثور على طرق لتمضية الوقت بأقل قدر من الضرر: بممارسة التمارين الرياضية اليومية والتعامل بشكل طيب مع من يحيطون بك ومحاولة ملء الوقت بالهوايات التي تحبها.

قالت جيسيكا: يبدو لنا أننا نعود إلى كوكب آخر. لقد كنا على مركبتنا الأشخاص الثلاثة الوحيدين الذين لم نخضع لإجراءات الوقاية والعزل المفروضة اليوم على مليارات البشر.

أمام قسوة الظروف التي يعيشها سكان كوكبنا، والمفتوحة على المجهول، صار حلماً أن يهرب المرء على مركبة ما إلى الفضاء. طبعاً ضربت أهل الأرض أوبئة وكوارث في الماضي، وتمكنت البشرية من تجاوزها بعدما حصدت ملايين الأرواح حول العالم. لكننا كنا نعتقد، لسبب ما، أن التقدم العلمي في هذا العصر الذي نعيشه سوف يسمح لنا بالاعتماد عليه لإنقاذنا من أخطار داهمة، مثل خطر «كورونا»، أو على الأقل لتوفير خريطة طريق تتيح لنا رؤية نهاية ما لهذا الكابوس. على العكس من ذلك، كلما كثرت آراء العلماء والخبراء والأطباء على الشاشات، زاد القلق أمام جملة مؤلمة تسمعها تتكرر على الألسنة: نعمل جهدنا للبحث عن لقاح لتجنب الإصابة أو علاج لشفاء المرضى، لكن لا تتوقعوا حلاً سحرياً أو نهاية قريبة. المسألة ستطول. فنحن نواجه وباء خطراً لم تعرف البشرية مثله من قبل.

تطفئ الشاشة بعد هذا الإنذار القاتل وتذهب إلى فراشك. تحلم بأيام كانت فيها خططك اليومية أن تفيق في الصباح وتتوجه إلى عملك. أن تتجنب زحمة السير في الشوارع، أو أن تعثر على طاولة في مطعم تلتقي على مائدته أصدقاءك أو أفراد عائلتك، أو أن تحجز مقعداً في إحدى الصالات للاستمتاع بأمسية موسيقية، أو أن تخطط لرحلة إلى مدينة لم تطأها قدماك من قبل. كل هذا كان من الماضي.

النزهة الوحيدة المتاحة اليوم هي داخل غرف البيت الضيقة أو في الشارع القريب، تسير على رصيفه مثل لص متسلل، يجول متخفياً يتجنب لقاء العيون أو الأجساد التي تقترب منه.

على المركبة التي اتجهت إلى الفضاء من محطة الفضاء الدولية في بايكونور، بعد هبوط مركبة الرواد الثلاثة، كان بين الرواد الجدد عالم فضاء أميركي يدعى كريس كاسيدي. قال كريس وهو يصعد إلى المركبة عبارة قد تصلح لأن نرددها: لا أستطيع أن أخفي فرحي بهذه الفرصة لمغادرة الأرض في هذا الزمن الصعب الذي لم أعرف مثله طوال حياتي.

كاسيدي وزميلاه الروسيان سيمضون ستة أشهر في مركبتهم الفضائية. ولا بد أنهم يحملون معهم السؤال الذي يشغلنا جميعاً: هل سيكون كوكبنا قد نجح عند ذاك في التغلب على الوباء، أم أنه سيكون مستمراً في الكفاح للسيطرة عليه؟