Site icon IMLebanon

قراءةٌ أوليَّةٌ حول مَقاربةِ الرئيس الأميركي لإنهاء النِّزاعاتِ المُسلَّحة

 

وعود الرئيس الأميركي ترامب بإنهاء النِّزاعاتِ في العالمِ بدأت قبل استلامِه مَقاليدِ السُّلطَة، وبالتَّحديد منذ بدأ بإطلاقِ العديد من الوعود الانتخابيَّة، كان أهمها «القضاءُ على الصراعاتِ المُسلَّحةِ في العالم»، أمّا مُرتكزاتُها فتُستخلصُ من التَّطلُّعاتِ الإستراتيجيَّةٍ للإدارَةِ الأميركيَّةِ الجديدة. إلَّا أنه لا بدَّ من العودةِ إلى المزايا الشَّخصيَّةِ التي يتحلى بها الرئيس الأميركي الحالي، والتي لها تأثيرها الجوهري على المَواقِفِ التي يتَّخِذُها والتَّوجُّهاتِ التي يتبنَّاها، وهو بالطَّبع شخصيَّةٌ براغماتيَّةٌ تَميلُ إلى المُواجَهَةِ المُباشِرَة؛ شخصيَّةٌ مبنيَّةٌ على مزيجٍ من الجُرأةِ والثِّقةِ العاليَةِ بالنَّفس والميل إلى التَّفرُّد باتِّخاذِ القرارات، والرَّغبَةِ في التَّطرُّقِ المُباشِرِ للمَسائلِ المَطروحَة، وحب الظُّهور على نحو مثيرٍ للجدل.

ومأخوذٌ بعظمَةِ أميركا وهيمنتها الجيوسياسيَّةِ وتفوُّقِها العَسكري يُركِّزُ الرئيس ترامب في توجُّهاتِه الخارجيَّةِ على ضمانِ الأحاديَّة القُطبيَّةِ التي تجعلُ من أميركا سيدَةَ العالم دون منازع، مُستغلًّا تفوقَها في الصِّناعات العسكريَّة والصِّناعاتِ المدنيَّةِ العاليَة التَّقانة وهيمنتها السَّاحقةِ عسكريًّا، لإحباط كل المُحاولات الراميةِ إلى إيجاد منافسين استراتيجيين لها على السَّاحةِ الدَّوليَّة؛ ومن هذا المنظار ينظرُ بعين الحَذرِ إلى كلٍّ من الصِّين وروسيا كمَصدرين أساسيين لتَهديد النُّفوذِ الأميركي، ولا ينكرُ سعيَهُ لكَبحِ جُموحِهِما الطَّامِحِ لتثبيتِ التَّعدُّديَّةِ القطبيَّةِ مستفيدتان من مَكانتيهما كدولتين عُظميين، مركِّزاً على الجانبين الاقتصادي والعَسكري. وتراه لا يُفوِّتُ فرصةً إلَّا ويؤكِّد على ضَمانِ تفوُّقِه العسكري على روسيا ومنعها من استعادة أمجاد الاتِّحاد السوفييتي، وإصرارِه على التَّصدي للتَّوسُّع الاقتِصادي الصِّيني باتِّباعِ سياسةٍ مُتشدِّدةٍ حيالَها من خِلالِ تَضييقِ الخِناق على كبرياتِ الشَّركاتِ الصينيَّة.

 

تركيز ترامب الخارجي لا يقتصرُ على الدُّول التي تنافسُه على النُّفوذ الدَّولي إنما تراه لا يَغفُلُ عن الأمور الإقليميَّة، من ذلك: موقفِه الحازِمُ تجاهَ جارته المكسيك وتوجيهه التَّعليمات لإقامةِ سور للحد من الهجرة غير المشروعة منها باعتبارها مسألةً تمسُّ الأمن القومي الأميركي، وتبنيه لسياسةٍ تشاركيَّةٍ مع إسرائيل تضمنُ لها تفوُّقها العسكري، وتكفلُ حمايتها الأمنيَّة، وتوفيرِ الغطاءَ السِّياسي، إذ كان سبَّاقاً في نقلِ السَّفارةِ الأميركيَّة إلى القُدس؛ وبموازاة ذلك استَطاعَ بناءَ علاقًةٍ طيِّبةٍ مع بعضِ الدُّولِ العربيَّة وفي طليعتها الدول الخليجيَّة، مع تمييز للمملكة العربيَّةِ السُّعوديَّة بعلاقةٍ فريدة، ويُشجِّعُها على التَّطبيع مع الكيان الإسرائيلي؛ وفي المُقابل يتبنى سياسةً حازمَةً تجاه النِّظام الإيراني، الذي يعتبرُهُ مصدرَ خطرٍ استراتيجيٍّ على حليفتِه إسرائيل ومنطقة الشَّرق الأوسط بكاملها، وهذا ما دفعَهُ إلى إلغاءِ الاتِّفاقِ النَّووي الذي أبرَمَه سلفَهُ (أوباما) مع إيران.

 

يتبنّى الرئيس ترامب في سياسته الخارجيَّة مبدأ أميركا أوَّلاً، وبالتالي يُغلِّبُ المَصالِحَ الأميركيَّة على أيَّةِ اعتباراتٍ أخرى، ولو على حسابِ التزاماتها الدَّوليَّة، وفي هذا الإطار لا يتورَّعُ عن تسخيرِ النُّفوذِ السياسي والعسكري الأميركي كما اللجوء إلى العُقوباتِ الاقتِصاديَّةِ والتِّكنولوجيَّةِ لفرضِ إملاءاتِهِ على الدُّولِ الأُخرى من دون أن يصلَ به الأمرُ للغَوصِ في مَعارِكٍ وحُروبٍ مُباشِرَة.

يضع الرئيس ترامب المنافسةَ على النُّفوذِ مع الصين في سلَّمِ أولويَّاتِه المُستقبليَّة، من هنا تبنى في ولايته الأولى خيار التَّخلي عن نشر العديد من القواعِدِ العسكريَّةِ الأميركيَّة على مستوى الكرة الأرضيَّة، وفي هذا الإطار وجَّه بتقليص عدد تلك القواعِدِ في منطقَةِ الشَّرقِ الأوسَط، من دون إغفالِ مُتطلِّباتِ التَّصدي لما يعتبره خطر التَّنظيمات الإرهابيَّة، والتي يتعاملُ معها بتنفيذِ عمليَّاتٍ أمنيَّة موضِعيَّة. ولكن يبدو أن تلك المُقارباتِ قد تبدَّلت في ولايته الثانيَة على ضوءِ المُستجدات التي طرأت على أثر حرب أوكرانيا والحرب في منطقة الشرق الأوسط، بحيث أعادَ النَّظرَ في توجُّهِهِ السَّابق ليتبنّى شعار وقف الحروب، ولكن من دون التَّخلي عن مسلَّمَةِ ضَمان الهيمنةِ الأميركيَّة، وهذا ما تُرجِمَ برفع إدارته الحاليَّةِ ميزانيَّةَ وزارةِ الدِّفاع إلى مُستوياتٍ غير مَسبوقة، وتبنيها رؤيةٍ استراتيجيَّةٍ مُتطوِّرةٍ لإحكامِ هيمنَةٍ اقتصاديَّة وعسكريَّة ساحِقَةٍ لأميركا على السَّاحةِ الدَّوليَّة.

 

تبنّى الرئيس ترامب بموازاة تطلّعاتِه الاقتصاديَّةِ رؤيةً دفاعيَّةً مُتقدِّمة عنوانها التَّخلُّص من الحروب، من خلالِ القضاءِ على النِّزاعاتِ المُسلَّحة، لمواكبَةِ مقاربتِهِ السِّلميَّةٍ لحلِّ النِّزاعاتِ المُسلَّحةِ، والتي يرى أنها تنطوي على مخاطرَ تُزعزِعُ الاستقرارَ على السَّاحتين الدَّوليَّةِ والإقليميَّة. تقوم هذه الرؤيةُ على رفعِ ميزانيَّةِ وزارةِ الدِّفاع الأميركيَّة وتَعزيزِ التَّعاونِ مع الحُلفاءِ الغَربيين والإقليميين، وحثِّ الشُّركاء الأوروبيين على رفعِ المُوازناتِ المرصودَةِ من قبلهم للدِّفاع، وزيادةِ مُساهماتِهِم في الدِّفاعِ المُشتركِ أو الجَماعي.

اقتصاديًّا تُركِّزُ الإدارة الأميركيَّةُ الجديدة على تحقيقِ النُّمو الاقتصادي وتجنُّبِ الرُّكود والحدِّ من التَّضخُّم، وضمانِ التَّفوقِ الاقتِصادي خلال القرن الواحد والعشرين لصالِح أميركا، وتعزيزِ القُدراتِ التَّنافُسيَّةِ للمُنتجاتِ الأميركيَّةِ مقابل المُنتجاتِ والسِّلعِ الصينيَّة، وذلك بتبني سياسَةٍ ضريبيَّةٍ تَحِدُّ من تغلغُلِ الشَّركاتِ الصِّينيَّةِ في الأسواقِ الأميركيَّة، وتُحرِّرُ الأسواقَ الأميركيَّةِ الإستِهلاكِيَّةِ من تبعيَّتِها للصِّناعاتِ الصِّينيَّة، وذلك بفرضِ حظرٍ على الاستثمار الأميركي في الصين والعكس أي الاستثمارِ الصيني في أميركا، وأخيراً الحدّ من الجُهودِ الاقتصاديَّةِ الصينيَّةِ باعتبارها تُزَعزِعُ الاستِقرارَ والازدهارَ العالَميين وفق النَّظرةِ الأميركيَّة.

إن مقاربة الرئيس ترامب لتبني الحُلولِ السِّلميَّة لم تأتِ على حِساب القُدراتِ العَسكريَّةِ الأميركيَّة، لا بل بُنيت على فرضيَّةِ التَّفوُّق العسكري الأميركي، أي باعتمادِ مبدأ السِّلم القائم على القُوَّة، وهذا ما يُستخلَصُ من الإصرار على الاحتِفاظِ بالتَّفوُّقِ العَسكري لصالِحِ أميركا والذي يقوم على المُرتكزات التاليَة:

أولاً: الاحتفاظِ بقرةٍ عاليَةٍ على الرَّدع: من خلال تحديث التَّرسانة النَّوويَّة، وتعزيز القدرات الصَّاروخيَّة.

ثانياً: تطويرُ منظومةِ الدِّفاعاتِ الجويَّة: من خلال اعتماد منظومة القبَّة الحديديَّة (Iron Dome)، وهي كناية عن نظام دفاع جوي متقدِّم يجمع ما بين رادارات مُتطورة تكنولوجيًّا وصَّواريخ اعتراضيَّة سريعة تلقائيَّة التَّوجيه والإطلاق، بحيث تتمكن من تدمير المسيرات والصَّواريخ المتوسِّطةِ والقصيرة المدى قبل بلوغِ أهدافها. وأول من صنَّعها شركة رافائيل الإسرائيَّلية بالتعاون مع الصناعات العسكريَّة الأميركيَّة، وتم تشغيلُها لأول مرَّة عام 2011 في وجه الصَّواريخ قصيرة المدى التي كان يطلقها مقاتلو حماس، وحقَّقت نتائج ملحوظة في الحَرب الأخيرة، مما جعلها محط أنظار العديد من الدُّول.

ثالثاً: تَعزيزُ التَّحالفات العسكريَّة القائمة: من خلال تعزيز التَّحالفات القائمة، والضَّغط على دول حلف شمال الأطلسي لرفع مستوى مساهماتها الماليَّة في التَّحالف، كما لتعزيز قُدراتِها العَسكرِيَّة بما يتناسب مع التَّحديات المُستقبليَّة، كذلك من أجل توزيع الأعباء الماليَّة، وبموازاة ذلك إرساءُ التَّعاون العسكري مع بعض الدُّول الإقليميَّة كدول الخليج العربي وإسرائيل للتَّصدي لما يعتبره تَهديداتٍ إيرانيَّة.

رابعاً: توسيعُ نطاقِ انتِشار القواعد العسكريَّة: بحيث تغطي مُختلف المناطقِ الحسَّاسة على المُستوى العالمي، وذلك من خِلالِ إقامَةِ قواعد عسكريَّة جديدة وتَعزيزِ ما هو موجود.

خامسًا: تحصينُ الأمن السيبراني: وذلك بغرض تعزيز الدِّفاعات السيبرانيَّة لحماية مختلف المرافق الحيويَّة الأميركيَّة من أية اعتداءات رقميَّة مع التَّركيز على المَخاطِرِ الرقميَّة الواردةِ من  الصين أو روسيا، كما باستغلال التِّقنيات الرقميَّة في مختلف المَجالات الدِّفاعيَّة.

ونخلُصُ للقول: إن رؤيَةَ السَّلام التي يتبنّاها الرئيس الأميركي ترامب، لن يكون شعارُها حمامَةَ السَّلام المَعهودة، إنما النَّسرُ الأميركي بمِنقاره المَعكوفِ ومَخالبه الحادَّة؛ ويبدو أن أوَّل بوادرِها، تتمثَّلُ في الضُّغوطاتِ التي يُمارسُها على كلٍّ من ملك الأردن والرئيس المصري ورؤساء بعض الدُّول الغربيَّة، لتوفير مكانٍ لإيواء الفلسطينيين الذين سيُدفعون إلى هِجرةٍ قسريَّةٍ من أرضِهم بعد أن أعدِمت فيها كُلُّ مُقوِّماتِ الحياة.