لم يكن لبنان يوماً أرضًا خصبة للميليشيات المسلحة لولا الانهيار المتدرج للدولة منذ اتفاق القاهرة عام 1969، الذي سمح للفصائل الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات بتحويل لبنان إلى ساحة معركة مفتوحة، مما قوّض سيادته ومهّد لصعود شخصيات مثل عماد مغنية، الذي أصبح أحد أخطر الإرهابيين في العصر الحديث بفضل هذه الفوضى.
وُلِد عماد فايز مغنية في 7 كانون الأول 1962 في الجنوب اللبناني، وسرعان ما انتقل إلى العمل المسلح، حيث التحق بـ «القوة 17»، الذراع الأمنية لمنظمة التحرير الفلسطينية تحت قيادة أبو جهاد، وتدرب على العمليات الخاصة وحماية القيادات. لكن نقطة التحول الكبرى في مسيرته كانت عام 1979، عندما قتل الإسرائيليون قائد استخبارات فتح، علي حسن سلامة، فبرز مغنية إلى الواجهة.
مع تصاعد النفوذ الإيراني في لبنان بعد الثورة الإسلامية عام 1979، أصبح مغنية إحدى الشخصيات المركزية في تأسيس منظمة الجهاد الإسلامي اللبنانية، التي تحولت لاحقاً إلى الذراع العسكرية لـ «حزب الله». أدار عمليات كبرى، مثل تفجير السفارة العراقية في بيروت عام 1981، وتفجيرات بيروت عام 1983 التي استهدفت مقرات المارينز والقوات الفرنسية، وأدت إلى مقتل أكثر من 350 شخصاً. كما كان وراء تفجير السفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس عام 1992، وشارك في عمليات إرهابية في السعودية والكويت والعراق، مما جعله هدفاً رئيسياً لمكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي وضع مكافأة قدرها 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه. لكن رغم ذلك، ظل «الشبح الذي لا يمكن تعقبه» حتى اغتياله عام 2008 في دمشق بعملية مشتركة بين الموساد وCIA.
على مدى عقود، ظل لبنان ساحة مفتوحة للصراعات الإقليمية، حيث كانت الدولة مجرد هيكل فارغ تهيمن عليه الميليشيات. لكن المشهد الذي شهده لبنان في 23 شباط 2025، خلال تشييع حسن نصرالله، حمل إشارات واضحة على تغيّر ميزان القوى. ومع تفكك الاقتصاد الموازي الذي يديره «الحزب»، لم تعد البيئة تسمح بإنتاج شخصيات مثل مغنية، التي استفادت من الفوضى والفراغ الأمني.
هذا التغيير لم يقتصر على الجانب الأمني، بل امتد إلى السياسة، مع انتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية وتولي القاضي نواف سلام رئاسة الحكومة. لم يكن هذا مجرد تغيير حكومي، بل تحولاً في المعادلة اللبنانية، حيث بدأ المشروع الوطني يستعيد زمام المبادرة على حساب النفوذ الإيراني. الاهتمام الغربي والعربي بلبنان لم ينقطع، بل عاد بزخم جديد لدعم قيام الدولة اللبنانية من ركامها، في تلاقٍ مع تأييد شعبي واسع في الداخل وفي الاغتراب.
اليوم، أمام لبنان فرصة تاريخية لاستعادة سيادته، بعيداً من حكم السلاح غير الشرعي والولاءات الخارجية. ومع بدء تفكك المنظومة الأمنية لـ «حزب الله»، يبقى السؤال: هل سيتمكن لبنان من فرض سلطته على كامل أراضيه، أم أن قوى أخرى ستسعى لإبقاء الفوضى قائمة؟ الأكيد أن ما حصل في 23 شباط 2025 هو نقطة تحول تعني أن لبنان يتجه نحو مرحلة جديدة، قد تكون بداية النهاية لعقود من حكم السلاح والفوضى، وعودة الدولة إلى موقعها الطبيعي.
