ليس المحكمون دوما على حق، أو على صواب، ربما أخطأوا في أحكامهم وجرّوا على البلاد المصائب. فمن قال إن إتفاقية «سايكس- بيكو»، كانت هي الحل الجذري والتاريخي والناجع والناجح للبلاد؟! ها هي تتراجع شيئا فشيئا، حتى تكاد تمحى من الوجود. من قال إن «إتفاقية القاهرة»، كانت الحل السحري للبنانيين والفلسطينيين؟! ها هم قد راجعوا رأيهم فيها، وأبطلوها تحت قبة البرلمان اللبناني، دون أخذ رأي للطرف الثاني. من لا يذكر الوحدة وتاريخ الوحدة، بين مصر وسوريا. و من لا يذكر الإنفصال وتاريخ الإنفصال، بين سوريا ولبنان، وبين مصر وسوريا، وبين مصر والسودان. جميعها كانت تفاجئ الجميع، وجميعها، ما كانت لترضي إلّا أصحاب الإرادات.
من لا يذكر إتفاقية الهدنة مع العدو في لبنان، وكيف صارت في خبر كان. أين الجولان وبحيرة طبرية اليوم من جميع الإتفاقيات التي عقدت بشأنه؟ ذهبت كلها مع الريح، تماما كما ذهب حكم البعث في سوريا، ومعه حكم الأسدين: الأب والإبن في الليلة السوداء.
من لا يذكر دعوة المحكّمين، والحكّام، للوحدة بين مصر وليبيا والسودان واليمن وسوريا، «كأنها اليوم أحلام». بل أين صار الإتفاق الثلاثي؟ وكم من الاتفاقيات عقدت بشأن الحرب اللبنانية التي دامت ثلاثين عاما؟!
من لا يذكر الوقوعات الأمنية، بين جبل محسن وباب التبانة، وكيف كانت تعقد الاتفاقيات صباحا، وتمحى في المساء. من لا يذكر حرب الجبل، وحرب التحرير، وحرب طرابلس وحرب الأشرفية. كان اللبنانيون يخرجون تحت النار، ولا يعودون إلّا وراء الرايات البيضاء. أذلاء… أذلاء… أذلاء.. فليتقوا الله فينا…
تصادف اليوم الذكرى الخمسون للحرب الأهلية في لبنان ما بين شرقية وغربية، ولبنانية وفلسطينية، وفلسطينة وسورية، ويمين ويسار، وأميركا وروسيا… وإسرائيل… لِمَ لا! ولا تزال الاتفاقيات ترنّ في الأسماع، ولا زال إجتماع الطائف، شاخصا للعيون، ولم يجف بعد الحبر الذي سال على الورق، ولم تجف بعد الدماء التي سالت على الأرض. ولا نزال نسمع الأصوات نفسها، وكذلك الدعوات… ونتجرّع كأس السموم. ولا تزال التعهدات التي نادى بها دستور الطائف حبرا على ورق، ولم يطبق شيء منها على الأرض. فلم يجرؤ الحكام تنفيذها، بعد عودتهم إلى لبنان، طيلة تلك الأعوام…
إذا أردنا أن نعدّد أخطاء التحكيم وأخطاء المحكمين، من أول القرن، فإنا لنراها كثيرة، ولا تقع تحت حصر. لكننا نريد أن نتريّث قليلا، أمام إتفاق وقف النار الأخير في لبنان… فكيف يحق للعدو أن يحافظ على إحتلال لبنان بالكامل، بالنار. واللبنانيون يهربون من نيرانه، من زاوية ألى زاوية. فمن يعيد النظر في هذا الإتفاق، بعد وجود مثل هذه الثغرات؟ من يوقف العدو عن غيّه، ويردّه عن كيده، ويحمي المواطنين الآمنين من الضواري، وها هو ما يجري في غزة، سلفة عينية، لما يراد أن يقع على لبنان، فكيف نستطيع دعوة المحكمين لإعادة النظر بالأحكام، ونحن نشتهي كيس الطحين، ورغيف الخبز على النار؟
اللبنانيون يريدون حتما بسط سلطة الدولة على جميع أراضيها. ويريدون أن لا يروا السلاح إلّا في أيدي رجال الشرعية اللبنانية وحدهم حصريا. واللبنانيون وأمامهم وخلفهم، وعن يمينهم وعن يسارهم، الدولة والمجتمع الدولي، كل يساعد على ذلك في حدود المعقول. ولكن من يوقف جموح العدو، في قنص جميع البلدات؟ في قنص ما يشاء من البنايات، من الآليات، وفي الاعتداء أنّى شاء وأين شاء؟
أخطاء التحكيم في إتفاق وقف النار الأخير، كثيرة. ولا بد من تصحيح المسار، للعدل والإنصاف! فليراجع المعنيون والمحكمون والقيّمون، تلك الأحكام الجائرة على لبنان، في بنود إتفاق وقف النار في لبنان وللمرة الأخيرة، بعد خمسين عاما على الثالث عشر من نيسان، إذا كانت العقول المحكمة صافية، أمام الجرائم الإنسانية، التي يوقعها العدو كل يوم على لبنان…
