Site icon IMLebanon

في استعصاء السلاح

 

 

أحدثت ورقة الموفد الأميركي توم براك إرباكاً واضحاً لدى السلطة السياسية، إذ وجدت نفسها اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا الانخراط في مسار واضح لمعالجة ملف السلاح، أو مواجهة عزلة دولية متزايدة وانكشاف عسكري أمام إسرائيل قد لا يُبقي للبنان متّسعاً للمناورة.

 

بينما أصبح واضحاً عجز السلطة السياسية اللبنانية عن اتخاذ خطوات تنفيذيّة، وتكتفي بالخطابات والتصريحات من دون أي فعاليّة، يتزايد التساؤل في أوساط اللبنانيين: ما الذي يدفع “حزب الله” إلى الإصرار على التمسّك بسلاحه، رغم أن فعاليته في مواجهة إسرائيل باتت شبه معدومة، ورغم ما قد يترتب على هذا الإصرار من تبعات مدمّرة على بيئته الشيعية؟

 

لفهم طبيعة هذا الإصرار، لا بد من معرفة وظيفة هذا السلاح، إذ تتجاوز شعار حماية لبنان أو الدفاع عن الطائفة الشيعية، أو حتى عن الحزب نفسه. وقد أسقطت الحرب الأخيرة شعارات الردع والحماية.

 

لفهم الوظيفة الأعمق للتمسّك بالسلاح، لا بد من العودة إلى مرحلة تأسيس “حزب الله” في ثمانينات القرن الماضي. في تلك المرحلة، سعى “الحزب” إلى تكريس عقيدة “ولاية الفقيه” في أوساط الطائفة الشيعية، في محاولة لربطها دينياً وعقائدياً بإيران. غير أن هذا السعي فشل بسبب تمسّك شيعة لبنان بمرجعيات تُمثّل إرثًا تاريخيًا وتتمتع بقيمة فقهية ومعنوية وازنة، أمثال السيد أبو القاسم الخوئي، السيد محمد حسين فضل الله، والسيد علي السيستاني، وغيرهم من المرجعيات.

 

في ظل هذا الإخفاق العقائدي، لجأ “حزب الله” إلى السلاح بوصفه أداة لتعزيز النفوذ داخل الطائفة الشيعية وفرض الهيمنة باسم “المقاومة”. مع الإشارة إلى أن “الحزب” لم يخض حروبًا إلّا مع حركة أمل بهدف فرض سيطرة شبه مطلقة داخل البيئة الشيعية، وتأمين قاعدة نفوذ صلبة لإيران في لبنان.

 

ما لم ينجح به “حزب الله” عبر البوابة الدينية، نجح به عبر بوابة “المقاومة”. فالسلاح، برمزيته السياسية والعسكرية، تمكّن من خلق حالة من الالتفاف حول “الحزب” من قبل شرائح واسعة داخل الطائفة، بما فيها أتباع المراجع الذين يختلفون عقائدياً مع فكرة “ولاية الفقيه”. وهكذا، أضحى السلاح هو الأداة السياسية التي عوّضت إخفاق “الحزب” في فرض عقيدته الدينية، وأصبح الرابط الوحيد بين شيعة لبنان ومشروع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

ومن هذا المنطلق، يمكن فهم الإصرار الشديد على عدم التخلي عن السلاح، حتى في ظل الخسائر الكبيرة التي تتكبدها الطائفة الشيعية. فهذا السلاح هو صلة الوصل الوحيدة بين إيران وشيعة لبنان. وإذا ما سقط هذا السلاح، تسقط معه سيطرة إيران على الطائفة الشيعية، وبالتالي نفوذها في لبنان.

 

في هذا الإطار، يمكن أيضاً فهم تحييد إيران “حزب الله” خلال الحرب الإسرائيلية عليها. فالمصلحة الإيرانية، كانت تقتضي الإبقاء عليه خارج أتون الحرب، تجنبًا لتعريضه لضربة إسرائيلية تقضي على ما تبقى من سلاح، وبالتالي خسارة صلة الوصل مع شيعة لبنان.

 

لذلك، إنّ امتناع “الحزب” عن الدخول في الحرب لا يُعبّر عن تغليب المصلحة الوطنية، بل يعكس حسابات استراتيجية إيرانية دقيقة تهدف إلى الحفاظ على نفوذها في لبنان. خصوصاً أنّ الحرب عليها لم تبلغ مرحلة تهديد وجودي للنظام، بحيث تُجبر طهران على الزج بجميع أدواتها في الصراع.

 

هذه الوظيفة للسلاح تُفضي إلى استعصاءٍ يُعطّل أي محاولة لمعالجته سلمياً، إلا إذا ما قررت طهران قطع علاقتها بشيعة لبنان.