من «ديوان المشورة» إلى أول بلدية
تعيش مدينة بيروت حالة غير مسبوقة من التخبّط والاضطراب عشية الانتخابات البلدية والاختيارية، وذلك في ظل غياب إطار مرجعي قادر على توحيد الصفوف، ولملمة التشتت والتشرذم، ومعالجة الصراعات السياسية والطائفية، التي لا تعدو كونها مجرّد أنانيات فئوية وعصبية ضيّقة، لا تمتّ بصلة لا من قريب ولا من بعيد بمصلحة بيروت الإنمائية والحيوية لإعادة ازدهارها وإستعادة مكانتها الريادية كعاصمة مركزية للبنان، ورعاية شؤون أهلها الخدماتية والحياتية!
وسط هذه الأجواء المقلقة، نفتح تاريخ بلدية بيروت على عدة أجزاء، مستعيدين أحوال العمل البلدي في بيروت…
****
• العمل البلدي بعهدة «ديوان المشورة»:
أيام الحكم المصري تولّى الأمور العسكرية في بيروت سليمان باشا (الفرنساوي) والأمور الإدارية محمود عزمي بيك، وألحقت بإيالة طرابلس (الشام)، على أن تتولى شؤونها المحلية لجنة من أعيانها وتجارها ووجهاء عائلاتتها، مؤلف من إثني عشر عضواً مناصفة بين المسلمين والمسيحيين (ما أشبه البارحة باليوم)، وأطلقت عليها تسمية «ديوان المشورة». الأعضاء الذين تم تعيينهم هم: عبد الفتاح آغا حمادة (الإسكندراني الأصل) والذي اشتهر باسم «السيد فتيحة»، عمر بيهم العيتاني، أحمد العريس، حسن البربر، أمين رمضان، وأحمد جلول. أما الأعضاء المسيحيون فكانوا: جبرائيل حمصي، بشارة نصر الله، إلياس منسى، نصيف مطر، يوسف عيروت، وموسى بسترس. وأنيطت نظارة الديوان (أي رئاسته) إلى عبد الفتاح آغا حمادي الذي عُرف بسموم مداركه وإنجازاته.
وكان «ديوان المشورة» بمثابة الحكومة المحلية لبيروت، إذ أنيط بها النظر في الأموال الأميرية وقضايا الملكية والأراضي وتلزيم المقاولات، فضلاً عن القرارات المتعلقة بمجال الصحة والتربية والاقتصاد والعمل والنقل والإعمار والإغاثة والتنظيم المدني.
وبذلك فإن «ديوان المشورة» الذي أنشئ سنة 1892 كان بمثابة باكورة العمل البلدي في مدينة بيروت، وإن كان تشكيله قد تمّ بالتعيين وبتسمية مختلفة، حيث أنه أسّس لإطلاق بلدية بيروت في وقت لاحق.
• أول بلدية في بيروت:
في العام 1864 نشأت أول بلديتين في بلاد الشام في كل من بيروت ودير القمر، بعدما استعادت الدولة العثمانية تلك البلاد من جيوش حملة إبراهيم باشا، وتم تعيين الوجيه البيروتي رئيس مجلس التجارة عبد الله بيهم العيتاني رئيساً لأول بلدية في بيروت، (وهو الذي إستضاف في البيت الذي بناه سنة 1850 في «حاووس الساعتية» مقابل مبنى «ستاركو» حالياً الأمير عبد القادر الجزائري).
ومن ثم تعاقب على رئاسة بلدية بيروت رؤساء عدة من أبناء المدينة ووجهائها، حيث كانت لهم إنجازات ساهمت في إنماء المدينة طوال العهد العثماني، وذلك بعد إصدار قانون سنة 1871 حدّد بموجبه آلية تأليف المجلس البلدي الذي نص على أن يتكوّن من رئيس ومعاون له وستة أعضاء، إضافة إلى طبيب ومهندس، ويعاون المجلس كاتب وأمين صندوق.
وتولّى أحمد أباظة الذي كان قائم مقاماً لمركز بيروت ووكيل متصرف رئاسة البلدية السنة 1872 وجرى في أيامه جرّ مياه نهر الكلب إلى بيروت، واحتفل بوصول المياه إليها في 12 أيار سنة 1875.
بعد وفاة أباظة عُيّن محي الدين عمر بيهم رئيساً للبلدية سنة 1877، ثم أُعيد إنتخابه رئيساً لها سنة 1888، (علماً أنه رفض إعادة ترشيح نفسه لولاية ثانية بعد انقضاء ولاية رئاسته للبلدية).
أما سنة 1878 إختير فخري بيك رئيساً للبلدية، الذي أجرى عدة تحسينات، منها إصلاح مجاري المياه وترميم الطرق الرئيسية وفتح طريق رأس بيروت وزيادة المصابيح لإنارة الأسواق وتنظيمها، كما شجّع الأجانب على إنشاء النوادي وتوسيع المرفأ إنشاء البورصة، كذلك أصدر في أيامه قراراً بتولي البلدية شؤون غابة الصنوبر فرتّبها وأعدّها كمنتزه للبلدية.
ولعلّ من أبرز إنجازاته توسيع ساحة «البرج» وتحديثها بعد إزالة الأكواخ الخشبية من أطرافها وجوانبها وبناء رصيف من الحجارة وغرس الأشجار والأزهار وتشييد بركة ماء وإستحداث أربعة مداخل للحديقة، ثم إرساله إلى أوروبا بطلب مصابيح لإنارة الساحة والحديقة، متبرّعاً بمبلغ 41,000 قرش لإنجاز وإتمام المشروع الذي بلغت كلفته 100,000 قرش. وخلال ولايته باشرت البلدية بتقييم الشوارع لإعتماد الأرقام في عمليات إيصال «البوسطة» أي البريد، إضافة إلى وضع لوحات بأسماء الشوارع في مستهل ونهاية كل شارع للتعريف والدلالة، إلّا أن ثمة موانع حالت دون إكمال المشروع، الذي أُعيد استكماله إعتباراً من العام 1910. واتخذت البلدية في عهده سلسلة تدابير لتنظيم السير في المدينة ومنها عدم السماح لرجل الواحد بجرِّ أكثر من ثلاثة حمير وأن لا يسير بها راكضاً، كما فرض على كل من يسوقها أن تكون بحوزته كفالة صاحب الحمير.
إلى ذلك اتفق فخري مع رئيس شركة المياه على رش الطرق بالمياه صباحاً ومساءً على مساحة قدرها 15,000 متر طولاً وخمسة أمتار عرضاً بكلفة قدرها 15 بارة للمتر الواحد سنويا.
إستقال فخري بك من منصبه العام 1880، فثارت الفوضى في المدينة وتكدّست النفايات وتصاعد الغبار من الطرق. وشاع في حينه القول عن بلدية بيروت «إسم بلا جسم» بسبب غياب رئيسها وتردّد الأعضاء في إتخاذ القرارات، الأمر الذي دفع بالسلطات إلى رفض استقالة فخري لكنه عاد واستقال في سنة 1882.
– يتبع: البلدية حتى نهاية العهد العثماني.
