Site icon IMLebanon

بين حدثين ومكان واحد: بداية ونهاية مشروع

 

 

تحوّلت مدينة كميل شمعون الرياضية في بيروت إلى أكثر من مجرد معلم رياضي. كانت ولا تزال ساحةً تختزل المشهد اللبناني بكل تناقضاته، بين الدولة واللادولة، بين الشرعية والفوضى، بين المؤسسات والميليشيات. في أيار 1973، كانت هذه المدينة مسرحاً لآخر محاولة خاضتها الدولة اللبنانية في وجه مشروع الدويلة الذي كانت منظمة التحرير الفلسطينية تسعى إلى تكريسه، قبل أن تنهزم الدولة تحت وطأة التسويات السياسية والتدخلات الخارجية. بعدها، أصبح لبنان ساحةً مشرّعة أمام المشاريع العابرة للحدود، بدءاً من “فتح لاند” وصولاً إلى “جمهورية حزب الله”. بعد خمسين عاماً، وفي شباط 2025، عادت المدينة ذاتها إلى الواجهة، لكن هذه المرة مع مشهد مختلف تماماً: تشييع حسن نصرالله، الأمين العام لـ”حزب الله”، بعد اغتياله على يد إسرائيل، في تطوّر يعكس تبدّل المعادلات الإقليمية والدولية، ويؤشر إلى أفول المشروع الذي بدأ منذ نصف قرن، والذي دفع ثمنه لبنان غالياً، من الوصاية الفلسطينية إلى الوصاية الإيرانية، ومن منظمة التحرير إلى “حزب الله”. بين المشهدين، نصف قرن من الهيمنة الميليشياوية التي صادرت الدولة، وأحالتها إلى كيان فاقد السيادة، خاضع لوكلاء الخارج، وعاجز عن اتخاذ قراره المستقل.

 

لم تكن معركة المدينة الرياضية عام 1973 مجرد مواجهة عسكرية بين الجيش اللبناني والفصائل الفلسطينية، بل كانت الفرصة الأخيرة لإنقاذ الدولة من السقوط أمام مشروع الدويلة. حينها، كان حافظ الأسد قد تسلّم السلطة في سوريا عام 1970، ووجد في لبنان ساحةً مثالية لتوسيع نفوذه. تلقّف اتفاق القاهرة 1969 الذي منح الفلسطينيين حرية العمل العسكري من لبنان، وأدرك أن بإمكانه السيطرة على منظمة التحرير وتوجيهها وفق مصالحه، خصوصاً أن الاتفاق نصّ على أن دخول الفدائيين الفلسطينيين إلى لبنان يتم حصرياً عبر سوريا، ما منح الأسد ورقة استراتيجية لمقايضة بيروت. لم يكن النظام السوري مهتماً بالقضية الفلسطينية إلا بمقدار ما تخدم مشروعه، وكانت استراتيجيته تقوم على السماح بعمليات فلسطينية ضد إسرائيل، ولكن تحت سقف محدد يضمن له التفاوض مع الغرب من موقع قوة، وإبقاء لبنان في حالة توتر دائم يتيح له التدخل الأمني والسياسي متى شاء، وإضعاف الدولة اللبنانية وتحويلها إلى كيان هش يسهل إخضاعه لاحقاً.

 

في 2 أيار 1973، حاول الجيش اللبناني قلب المعادلة، فخاض مواجهات مسلحة مع الفصائل الفلسطينية، التي تحصّنت داخل المدينة الرياضية. بدا للحظة أن الدولة استعادت زمام المبادرة، لكن إغلاق سوريا الحدود اللبنانية سرعان ما كشف حجم المأزق: لم يكن الصراع بين لبنان والفلسطينيين، بل بين دولة ضعيفة ودولة وصيّة. لم تفتح الحدود إلا بعد أن وافق لبنان على الشروط السورية، والتي شملت وقف الحملات الصحافية ضد الأسد، وإصدار بطاقات عمل للعمال السوريين، وتقييد حركة المعارضين السوريين في بيروت. في لحظة واحدة، خسرت الدولة اللبنانية المعركة، ليس فقط أمام الفدائيين، بل أمام سوريا أيضاً. ومنذ ذلك الحين، بدأ الانحدار الذي قاد إلى حرب 1975، ثم الاحتلال السوري، وأخيراً سيطرة حزب الله.

 

 

 

في 23 شباط 2025، عاد الحدث إلى المدينة الرياضية، لكن هذه المرة في اتجاه معاكس تماماً: تشييع حسن نصرالله بعد اغتياله. لم يكن الأمر مجرد تصفية سياسية، بل علامة فارقة على انتهاء مشروع الدويلة الذي بدأ عام 1973. لم يعد “حزب الله” قادراً على فرض معادلاته السابقة، ولم تعد إيران قادرة على استخدام لبنان كورقة تفاوضية كما فعلت سوريا من قبل. مع اغتيال نصرالله، دخل لبنان مرحلة جديدة، حيث تضافرت العوامل الدولية والإقليمية والداخلية لإنهاء الهيمنة الميليشياوية على القرار اللبناني. هذه المرة، لم يكن هناك ظرف إقليمي مهيّأ لفرض تسوية على اللبنانيين كما حدث في العام 1973، بل على العكس، كان هناك إجماع داخلي على إنهاء هيمنة الدويلة ومن ورائها الجمهورية الإسلامية، وهو إجماع جاء نتيجة خمسة عقود من النضال اللبناني المستمر، تُوّج بأول إجماع وطني تمثّل في خروج الجيش السوري عام 2005. لكن هذا الإنجاز وُوجه بعنف سياسي منظّم من قبل الدويلة، عبر سلسلة اغتيالات واحتلال بيروت وحرب على سكانها عام 2008، إضافة إلى التحالف الجهنمي العقيم مع تيار عون، الذي أعاد عقارب الساعة إلى الوراء. غير أن ما جرى في 7 تشرين 2023 وشباط 2025، من صمود للخط السيادي اللبناني، إلى جانب التحولات الإقليمية، جعل من الدويلة عبئاً سياسياً واقتصادياً، ولم يعد لبنان مجرد ساحة لتصفية الحسابات، بل دولة تحتاج إلى الاستقرار لتجنّب انهيارها بالكامل.

 

 

 

عند النظر إلى الحدثين، من الواضح أن المدينة الرياضية، التي كانت في 1973 رمزاً لسقوط الدولة، أصبحت في 2025 رمزاً لاستعادتها. في المرة الأولى، خسرت الدولة اللبنانية معركتها، فانهارت. في المرة الثانية، خسرت الدويلة معركتها، فاستعادت الدولة توازنها.