Site icon IMLebanon

الإحتفاظ بالسلطة

 

 

 

القاصي والداني، يعرف كيف يحكم لبنان وما يشغل اللبنانيين. لسنا بحاجة إلّا لمراجعة الديموغرافيا التي يتكوّن منها هذا الوطن الصغير، حتى نطّلع على العائلات والأسر والشخصيات، التي احتفظت لنفسها بنصيب عظيم من السلطة والمال والجاه لآماد وآماد. كان ذلك همّها طيلة العقود وربما القرون الماضية، ولذلك إستمكن الثبات على مفهوم السلطة القديم في النفوس، حتى قادها إلى عدم الإحساس بالتغيير الذي يجري حولها. كانت هذه العائلات، تنقل السلطة من حضن إلى حضن، تماما كما تنقل المال والعقار من حساب إلى حساب، كان التوريث عندها هو الشائع، وهو القاعدة، ولا يهمّ بعد ذلك، ما إذا كانت السلطة تأخذ مجراها، في الإتجاه الصحيح، ولا ما إذا كان الشخص المناسب في المكان المناسب، ولا ما إذا كان الأمر يؤدي إلى الفساد والإنحلال والتفكك، وإضعاف بنية السلطة من داخلها، وضياع الوطن من ثم بعد ذلك.

منذ قرن أو أزيد بقليل، لا تزال العائلات والأسر السياسية في لبنان، تحتفظ بمناصبها. يتغيّر كل شيء حولها، وتظل هي هي في مواقعها. تتقلّب مع إتجاهات الريح، كما تتقلّب الأشرعة، وتسير على هواها، حفاظا على ما بيدها من سلطة، ومن نفوذ ومن جاه.

 

أقول إن ذلك كان قد جرى على لبنان، بتأثير من الديموغرافيا التي تميّزه والتي استحكمت فيه، منذ العصور القديمة. غير أن المرء يتساءل، عن نوع السلطة التي استحكمت في نفوس الكثيرين من الزعماء والقادة، فكان قد حمل بسببهم كل هذا الغث والغثاثة، على البلاد وعلى الوطن وعلى القضايا، التي كانت في عهدتهم.

كانت السلطة هاجسهم الأول. وكان السبيل إلى الإحتفاظ بها، إنما هو أولوية الأولويات عندهم. فما كانوا يأبهون لتدهور الأوضاع المعيشية في البلاد، وما كانوا يهتزون للضعف أو الإختلال أو الإعتلال، أو حتى الإحتلال. فكان ذلك لمما يهزّ بل يزلزل بنيان الدولة، ويحطّمها ويطمع العدو فيها، كما يطمع أصحاب النيّات، وأصحاب السوابق. وكان التمسّك بالسلطة وعدم التنازل عنها، لا يكون إلّا بالإنقلاب وبالثورات وبالنزول إلى الشارع وتجهيز المعسكرات. كان ذلك لا يتم حقا إلّا على بحار من الدماء. والمئوية الآفلة خير شاهد على ذلك.

كان أصحاب السلطات عندنا، يخدعون أنفسهم، بأنهم أقوياء في مراكزهم وفي مناصبهم، وأن الشعب حولهم هو الحاضن لهم، لأن سلطتهم إنما كانت قد صدرت عن الشعب، ويتعمّدون نسيان كل الموبقات التي إقترفوها، بحق الشعب وبحق رفاق الدرب، حتى استطاعوا أن يغتصبوا السلطة ويستأثروا بها، وليس قديما جدا ما قاله الشاعر في هؤلاء:

«وما القرى والمدن الضائعة

سوى ناقة تمطيها البداوة إلى السلطة الجائعة».

حقا كان الشاعر محمود درويش صادقا، فيما قال في مثل هذا النوع من القادة والزعماء والرؤساء، ربما كان يعني واحدا من هؤلاء، إنما كان هذا «الواحد» مفردا بصيغة الجمع، فمعظمهم في الإستئثار بالسلطة مثل بعضهم البعض تماما، وعلى حد سواء.

فقد جاء «الربيع العربي»، فلم يستطيعوا الصمود ليومين. ذهب بهم وبأعمالهم وبأعمارهم، حتى أحالهم «كالعصف المأكول»، وذلك بعد تحكّمهم وإستئثارهم بالسلطة، طيلة نصف قرن وأكثر. كانوا خلال هذه الفترة الطويلة في السلطة، لا يفكرون إلّا بمزيد من الإستئثار والبقاء فيها، حتى كادت أن تتيبس في عروقهم وفي حلوقهم وفي صدورهم وفي عيونهم. كانت شهوة الإحتفاظ بالسلطة، الغاية الأسمى عندهم، وكل ما عداها هيّن عليهم، ولو بتسليم بعض أجزاء الوطن أو كله، للأعداء.

لم يدم لهم طريق الإستئثار والإحتفاظ بالسلطة، إذ سرعان ما أصابه الخلل والإختلال، فهوى بهم من عليائهم، وأسقطهم، بعدما كانت نفوسهم الصغيرة تساوم على البلاد وعلى الشعب وعلى الخيرات في باطن الأرض وظاهرها، حتى آخر نفس من أنفاسهم. فصاروا بعد ذلك إلى حفر التاريخ، فما رحمهم، ولا شفع لهم، لأنهم حقا، كانوا بلا وفاء للبلاد التي أنفقوا ثرواتها بلا حساب، وبلا رحمة على الشعب الذي ذاق تحت سلطتهم الأمرّين، حين كان سيفهم يحكم في الرقاب.

الإحتفاظ بالسلطة، مرض شائع في بلادنا، وهو الذي أسقط حصوننا من داخلها، في العراق وسوريا واليمن ولبنان. وقد تنبأ به الشاعر خليل حاوي شهيد إحتلال بيروت 1982، حين قال مناديا على الإنبعاث:

«إمسحي الخصب الذي ينبت في السنبل أضراس الجراد».

فلا زال الجراد يعشش في جميع مراكز السلطة عندنا، وهيهات أن تنجو منه الإرادات والنوايا والجهود، التي تبعث على الخصوبة والحياة والإنبعاث. هيهات أن ينجو منه قادتنا وزعماؤنا وأولياء الأمر فينا، لأنهم من قتلى العطش إلى السلطة. وأما الأعداء فهم قد قدّموا الأبحاث والدراسات وأجروها علينا، ولهذا هم متمكنون منا، يسقطون أوطانا بلدا بعد بلد، ويسرقون أرضنا قطعة وراء قطعة وتلة بعد تلة، فإِلامَ ندوم على مثل هذه الحالة؟!

الإستئثار بالسلطة مرض عضال، يتحكّم في نفوس معظم القادة والزعماء عندنا، وهم الذين يستقدمون الأعداء إلى ديارنا، ويعرّضون الناس للأخطار، ويتسببون بحرق كرومنا ومدننا وقرانا. فإِلامَ الإستئثار بالسلطة، إِلامَ؟!

ودائما على قاعدة:

نحن، أو لا أحد غيرنا!