بكركي أمام تحدي التجدد في الرؤية
صحيح أن ما يمكن وصفه بالردّة اليمينية في توسّع مضطرد في معظم الدول الأوروبية، لا سيما في موازاة الحالة الأميركية غير المسبوقة التي يمثلها الرئيس دونالد ترامب، لكن الصحيح أيضاً أن هذا المسار يشكّل فيه المسيحيون قوة دفع مهمة، وإن كان القوميون يحتلون الواجهة ويقودون القوى والأحزاب السياسية والتحركات التي تتشدد أكثر فأكثر حيال موجات المهاجرين، والتحديات التي تهدد هوية بلدانهم من التيارات العلمانية و”العبثية”.
فترامب، وعلى الرغم من أنه يمثل نوعاً من الرأسمالية المتوّحشة والبراغماتية القاسية، لكنه في الوقت نفسه يفخر بهويته المسيحية والتي يريدها لبلاده، في وقت بدأت أحزاب اليمين المعتدل في أوروبا تتماهى أكثر فأكثر مع اليمين المتشدد في طروحاته، وإن كانت ترفض في معظمها التحالف مع من تعتبرهم أصحاب أفكار عنصرية متطرفة.
هذا المناخ الذي يتبلور أكثر فأكثر، لا يمكن للكنيسة أن تبقى بمنأى عنه، حيث يبدو أن رياح التغيير بدأت تلفح أبواب الفاتيكان، لجهة العودة إلى نوع من التشدد في ما خص الحفاظ على الطابع المسيحي لأوروبا، وفي استعادة الاهتمام بقضايا الأقليات المسيحية في العالم، بعدما ركّز البابا فرنسيس طويلاً على الملفات الإنسانية وقضايا الفقر والتمييز على أنواعه وقبول الآخر المختلف من دون كثير شروط.
ولذلك، يصعب بحسب أوساط كنسية عليمة تصوُّر حبر أعظم جديد يتابع مسار البابا الحالي، علماً أن لبنان وما يمثله بالنسبة للكنيسة تأثّر سلباً بنوع من الإهمال الفاتيكاني في مرحلة أولى، ولم يكن أولوية على أجندة أسقف روما كما كان على أجندة يوحنا بولس الثاني.
وهذا ما واجهه البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الذي أشار إلى هذا الواقع في أكثر من مناسبة بعيداً من الإعلام، فاقتراحه بحياد لبنان لم يلقَ في مرحلة أولى أي ترحيب أو تفهّم جدّي لدى البابا والدوائر الفاتيكانية، بحجة أنه لم يتشاور مع الكرسي الرسولي في هذا الاقتراح، علماً أن المسألة أبعد من ذلك، إذ إن الفاتيكان، وكما الكثير من الحكومات في الغرب وحتى الليبرالية منها، لا يرى أن في لبنان مشكلة ترتبط بجوهر الحضور المسيحي، بقدر ما ترتبط بمعايير يسهل اعتمادها في الغرب، ولكن يصعب اعتمادها في لبنان بخصوصيته وتركيبته الدقيقة المبنية على الميثاق الوطني وعقد الشراكة التاريخي بين المسلمين والمسيحيين بما يتجاوز حسابات الأعداد والأرقام.
إنّ الكنيسة المارونية في لبنان مدعوة بدورها إلى إعادة النظر في بعض المفاهيم التي تتصل بالصيغة اللبنانية، لجهة ضرورة الاقتناع بتطويرها، لتوفير شبكة أمان أكبر للمسيحيين وسائر اللبنانيين ضمن لبنان الواحد والكبير كما شاءه البطريرك الياس الحويك ويتمسك به خلفاؤه وصولاً إلى البطريرك الراعي، على ما يقول دبلوماسي مخضرم على صلة بالدوائر الكنسية داخلاً وخارجاً.
فالكنيسة لا يمكن أن تستمر وتنمو باضطراد إذا استمرت الرعية في التقلص والانحسار، ولذلك لا بد من إعادة الرابط الحيوي بين الكنيسة والرعية، بما يعزز صمود الرعية وطمأنينتها إلى غدها.
وهذا ما يفترض مقاربة متجددة للكنيسة حيال القضايا المطروحة، للتماهي مع الجو السيادي والإصلاحي السائد، لا بل على الكنيسة أن تشجع كبار المسؤولين وعلى رأسهم رئيس الجمهورية للخوض بعيداً وعميقاً في رهان استعادة ما للدولة وللدولة وتكريس لبنان السيد المتنوع، بدلاً من الاكتفاء بالتنويه والارتياح.
يضيف: صحيح أن البعض انتقد وجود المطران مارون عمار في تشييع السيد حسن نصرالله، لكن الكنيسة أحسنت هذه المرة الخيار، إذ التقى البطاركة الكاثوليك مجتمعين على إرسال مطران واحد يمثلهم، بدلاً من أن يرسل كل منهم مطراناً، فبدا الأمر كأنه أقرب إلى رفع العتب، وفي الوقت لم يرفضوا كليّاً إرسال من يمثلهم كما شاع في مرحلة أولى.
على أن التطورات الدراماتيكة الأخيرة التي شملت خصوصاً الساحتين اللبنانية والسورية، حررت بشكل واسع الكنائس على اختلافها من سطوة الدويلة في لبنان والنظام السابق في سوريا، علماً أن بعض قادة الكنائس لا سيما التي تتخذ من دمشق مقرات لبطريركياتها كانت على صلات جيدة بنظام بشار، وما زالت تخوض نوعاً من الاختبار الذي لا يخلو من الحذر النسبي مع النظام الجديد بقيادة أحمد الشرع. وقد بلغ البطاركة والمراجع الكنسية على اختلافها أن هناك التزامات قطعها أحمد الشرع للأميركيين باحترام التنوع وبعدم التعرض للمسيحيين وكنائسهم ومصالحهم.
وبحسب المعلومات، فإن المراجع عينها تنتظر ضمانات ملموسة أكثر وتعوّل على الصيغة العتيدة للدستور الجديد، علماً أن البطريرك يوحنا العاشر يازجي لم يتردد في تلاوة أيات قرآنية عن السيد المسيح في إحدى عظاته أخيراً، في رسالة انفتاح نحو النظام الجديد، ولو أنها أثارت بعض ردود الفعل المستغربة في سوريا ولبنان.
