من الواضح أنّ هناك من لا يرى واجباً «لإدارة الأذن» للنصائح الدولية. فالبعض حرق المراكب مع أكثر من قوة دولية، لذلك فإنّ مصير الحراك الديبلوماسي الذي واكب الانتفاضة الشعبية، سواء بمبادرة فردية أو جماعية أو بناءً على طلب أركان السلطة، بات رهناً بمراعاة ملاحظاته، وهو ما ترصده المراجع المختلفة على خطّ تشكيل الحكومة بدايةً للحلول المرتقبة.
خطفت تحركات الشارع اللبناني أكثر من مبادرة ديبلوماسية بقي بعضها في السر قبل أن تظهر أخرى الى العلن. فقبل أن يبدأ موفد الرئيس الفرنسي الى لبنان مدير دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الخارجية الفرنسية كريستوف فارنو جولته في بيروت، وفي الأيام التي تلت استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري في 29 تشرين الأول الماضي، تحرّك عدد من السفراء وأعضاء المجموعة الدولية من أجل لبنان ومجموعة السفراء العرب قبل أن يطلب رئيس الجمهورية الاجتماع بهم أوّل من أمس. فقد شكّل اللقاء مناسبة ليشرح لهم وجهة نظره من الظروف التي يمرّ فيها لبنان، والملابسات التي رافقت استقالة الحكومة، وما يتصل بتشكيل الحكومة الجديدة. كما تناول موقفه من المطالب التي رفعها الحراك الشعبي، طالباً دعم المجتمع الدولي والعربي في التعامل مع الوضع الاقتصادي والإصلاحات وعودة اللاجئين السوريين الى بلادهم.
وفيما أعرب السفراء عن دعمهم للبنان، توقفت المراجع السياسية والديبلوماسية أمام مضمون البيان الذي أصدره مكتب المنسّق الخاص للأمم المتحدة في لبنان السيد يان كوبيش الذي استذكر كلمة رئيس الجمهورية في 31 تشرين الاول الماضي، فدعا الى تكليف من يشكل الحكومة بصورة عاجلة في الاستشارات النيابية الملزمة والإسراع الى اقصى حدّ في عملية تشكيلها من شخصيات معروفة بكفاءتها ونزاهتها وتحظى بثقة الناس. فرئيس الجمهورية أعطى في كلمته تلك، الاعتبار الوحيد للحكومة الجديدة من أجل تلبية تطلعات الشعب، وأن تحظى بثقته أولاً قبل ثقة مجلس النواب، وبدعم من أوسع مجموعة من القوى السياسية، مضيفاً أنّ وضعنا هو الأفضل لطلب دعم شركاء لبنان الدوليين.
وإن توقف المراقبون أمام الثوابت الدولية التي شدّد عليها كوبيتش، ظهر جلياً أن كل هذه الاعتبارات لم تلحظها السلطة في مواجهة ما يجري. وإن صحّت المعلومات التي تسرّبت من بعض اللقاءات التي أجراها الرئيس سعد الحريري أخيراً لجهة الإصرار على إبقاء بعض الوزراء في حقائبهم حال الوزيرين علي حسن خليل وجبران باسيل في وزارتي المالية والخارجية، بالإضافة الى التمثيل الحزبي والسياسي يضع كلّ المساعي الدولية في مأزق حقيقي.
وفي مجال آخر، توقف المراقبون باهتمام بالغ أمام توصيف كوبيتش للوضع الاقتصادي والاجتماعي الحرج، ولفته الى أنّه لا يمكن للسلطات المعنية الانتظار لبدء معالجته. وكان التوصيف واضحاً في اشارته الى انعدام وسائل المعالجة المطلوبة والتأخير في إطلاق الإجراءات التي تعيد الثقة وتضمن مدّخرات اللبنانيين آمنة.
وبناء على ما تقدّم، فأقلّ ما يقال في رأي العارفين ان النصائح الدولية وتوجهات ممثلي الدول الداعمة للبنان فد ذهبت هباء. فتشديدهم على حكومة من الأكفّاء وسواء كانوا من التكنوقراط او الاختصاصيين سيبقى حبراً على ورق بوجود الإصرار على حكومة تكنو – سياسية تبقي الحقائب السيادية والأساسية في عهدة القوى الحزبية التي رفضها الشارع. مع الملاحظة أنّ بعض المواقف راح بعيداً في استبعاد كل ذلك. ومنها إشارة رئيس الجمهورية العابرة في مقابلته المتلفزة الى وجود فئات لبنانية أخرى تفوق الذين انتشروا في الساحات واستبعاده وجود التكنوقراط، متسائلاً عن إمكان البحث عنهم على القمر.
وبالإضافة الى هذه المعطيات تجدر الإشارة الى ما كشفه من التقى الموفد الفرنسي أنه لم يحمل ايّ مبادرة تجاه ما يجري في لبنان. ولكنه لم يخرج في مداخلاته المقتضبة عن رؤية المجتمع الدولي وممثليه في لبنان باستثناء الموقف الروسي. وتبيّن لمن زاره أنه ظهر ممسكاً بالملف من جوانبه المختلفة. ولذلك شدّد في أسئلته على ما يعوق انطلاق الاستشارات لتشكيل الحكومة العتيدة ومدى التزام الدستور، كما بالنسبة الى ما بلغه حجم الأزمة الاقتصادية والنقدية ومسبباتها الداخلية والخارجية.
وأضاف من التقاه انه توسّع في أسئلته لجهة التشديد على ضرورة حماية الوحدة الوطنية في لبنان وضرورة استعادة التوازن الدقيق بين مكوناته الوطنية والسياسية، محذراً مما يمكن أن يؤدي الى اي تغيير في قواعد اللعبة السياسية في لبنان. كما شدد على احترام حساسية الوضع الاقتصادي والاجتماعي وإعطائه ما يستحقّ من عناية قبل ان تتبخر الإنجازات الأمنية والسياسية التي تحققت في لبنان.
وعليه ظهر واضحاً ان هناك من بين أهل الحكم من لم يقرأ التوجهات الدولية على حقيقتها وما تلزمه بأيّ خطوة مقبلة. ففي نظرهم ان القراءة الدولية لحجم الانتفاضة الشعبية وهمية. فأهل السلطة متمسكون بواقع ما قبل 17 تشرين الأول الماضي.
ولذلك فإن عدّت الضغوط الدولية والوساطات من باب المؤامرة الدولية فالبلد على شفير اكثر من هاوية ديبلوماسية وسياسية ونقدية واقتصادية. وما يزيد الوضع خطورة أنّه ليس هناك أيّ استعداد لإعادة النظر لدى الأكثرية النيابية بتلبية مطالب الشارع مع توجّهها الى تغذية المواجهة بين الشوارع المختلفة.
فنموذج «غزوة» ساحتي رياض الصلح والشهداء تجدّد أمس بأبطال جدد في جلّ الديب ومناطق أخرى من لبنان، وهو ما يوحي التوجه تدريجاً نحو الكارثة الحقيقية. فمن يلجمها؟