يضع قرار الحكومة اللبنانية الأخير بتكليف الجيش إعداد خطة لنزع السلاح غير الشرعي البلاد أمام منعطف جديد في مسار العلاقة بين الدولة وسلطتها الشرعية من جهة، والتشكيلات المسلحة غير الرسمية من جهة أخرى. قرارٌ أثار جدلاً واسعاً، إذ اعتبرته وكالة أسوشييتد برس «مهمة شاقة قد تضع المؤسسة العسكرية في قلب الانقسام اللبناني» (AP، تموز 2025)، فيما رأت «فرانس 24» أنّه «محاولة محفوفة بالمخاطر في بلد لم يتعافَ بعد من أزماته السياسية والاقتصادية».
• بين القانون والسياسة
ينطلق الجيش في أي خطة سيضعها من مرجعيته الدستورية والقانونية، ولا سيما «قانون الدفاع الوطني» (المرسوم الاشتراعي 102/1983)، الذي يحصر مهمة حفظ الأمن وسيادة الدولة بيد المؤسسة العسكرية. لكن التطبيق الفعلي يصطدم بجدار السياسة: فالسلاح غير الشرعي، وفي مقدمه سلاح حزب الله، ليس مجرد مخالفة أمنية، بل قضية ترتبط بتوازنات داخلية دقيقة وبمعادلات إقليمية.
تقرير مجموعة الأزمات الدولية (Crisis Group، 2023) وصف السلاح بأنه «جزء من منظومة الردع الإقليمي أكثر من كونه ملفاً لبنانياً داخلياً صرفاً». بمعنى أن أي خطة لبنانية، حتى لو جاءت بإجماع داخلي، لا بد أن تلامس ملفات إقليمية مثل العلاقة مع إيران، أمن إسرائيل، والموقف السوري.
• مرجعيات دولية حاضرة
لا يمكن للجيش أن يتجاهل قرارات مجلس الأمن، وتحديداً 1559 (2004) و1701 (2006)، اللذين نصّا بوضوح على وجوب نزع سلاح الميليشيات وحصر القوة المسلحة بيد الدولة اللبنانية. إدراج هذه القرارات في متن الخطة يعطيها شرعية دولية، ويفتح الباب أمام شراكة أو رقابة أممية، خصوصاً في الجنوب حيث تنتشر قوات «اليونيفيل».
صحيفة «لوموند» الفرنسية كتبت في آب 2024 أنّ «تفعيل القرار 1701 قد يكون المدخل الوحيد الواقعي لنقاش السلاح، تحت غطاء دولي يخفف حساسية الداخل». في المقابل، يشير خبراء في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى (2024) إلى أنّ المجتمع الدولي يستخدم هذه القرارات «كورقة ضغط مالية وسياسية أكثر من كونه مستعداً لفرض تطبيقها بالقوة».
• قدرات وإمكانات محدودة
رغم الثقة الشعبية النسبية بالجيش، فإن الأزمة الاقتصادية التي تضرب لبنان منذ 2019 انعكست سلباً على جاهزيته، من التمويل إلى العتاد. تقرير معهد كارنيغي للشرق الأوسط (2022) أشار إلى أنّ «الجيش اللبناني لم يعد قادراً على خوض عمليات واسعة من دون دعم أميركي وأوروبي مباشر».
وتُجمع تقارير صحفية دولية (رويترز وفايننشال تايمز، 2025) على أن الجيش يعيش على المساعدات الطارئة: رواتب بالدولار مموّلة جزئياً من الخارج، محروقات وذخيرة تأتي كهبات، وحتى صيانة العتاد باتت مرتبطة ببرامج تمويل أميركية وأوروبية. هذه المحدودية تجعل من المستبعد أن يذهب الجيش نحو خيار المواجهة المباشرة، وتدفعه إلى تقديم خطة تدرّجية تركّز على المسارات القانونية، الطوعية، والتفاوضية.
• ملامح خطة متوقّعة
من المرجح أن ترتكز خطة الجيش على أربع سلال متوازية:
– السلة القانونية: تحديد مفهوم السلاح غير الشرعي وربطه بالنصوص القائمة، اقتراح تعديلات تشريعية، وتفعيل القضاء (استناداً إلى مواد قانون الدفاع الوطني).
– السلة الأمنية: مسح المراكز والمخازن، ضبط الحدود، وتعزيز التنسيق مع قوى الأمن الداخلي. تقرير معهد واشنطن (2024) شدّد على أن «المعابر الحدودية غير الشرعية تمثل الشريان الحيوي لتدفق السلاح نحو لبنان».
– السلة الاجتماعية – الاقتصادية: برامج DDR (نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج)، وهي آلية اعتمدتها الأمم المتحدة في دول مثل سيراليون وليبيريا، مع تقديم حوافز اقتصادية وتعليمية للمسلّمين.
– السلة السياسية: موازاة الخطة التقنية بحوار وطني شامل، مع مظلة عربية ودولية تمنح العملية شرعية وأماناً. «فايننشال تايمز» حذّرت (آب 2025) من أنّ «أي خطة لا تحظى بضمانات عربية ودولية محكومة بالتعطيل».
• عقدة حزب الله
المعضلة الأساسية ستبقى في كيفية التعاطي مع سلاح حزب الله. الحزب أعلن بوضوح رفضه التكليف، واعتبره «غير موجود» من الأساس. وهو يرى أن سلاحه جزء من عقيدته الدفاعية، بل ومن «التوازن الإقليمي».
هنا، يدرك الجيش أن أي محاولة مباشرة لنزع هذا السلاح قد تعني انزلاقاً إلى صدام أهلي. لذلك، فإن الخطة المرجّحة ستعتمد على التدرّج، وعلى إبقاء الباب مفتوحاً لمسار تفاوضي. تقرير مجموعة الأزمات الدولية شدّد على أن «الواقعية تفرض صياغة خطة مرحلية تبدأ من الجنوب بالتنسيق مع اليونيفيل، وتؤجل النقاش حول القدرات الصاروخية إلى لحظة سياسية إقليمية أنسب».
• تجارب مقارنة
لا يملك لبنان رفاهية اختراع العجلة. تجارب دولية في برامج DDR تقدّم دروساً ثمينة:
– العراق بعد 2003: أثبت أن الحلول القسرية لنزع السلاح تؤدي إلى تفجير مقاومة مسلحة جديدة.
– البوسنة (1995–2000): أظهرت أن وجود قوات دولية ضامنة وغطاء اقتصادي ساعد في تسريع نزع السلاح.
– كولومبيا (اتفاق فارك 2016): بيّن أن ربط نزع السلاح بمكاسب سياسية واقتصادية للمجموعات المسلحة أكثر فاعلية من مجرد الضغط الأمني.
هذه النماذج ستشكّل مرجعاً ضمنيّاً في أي خطة يضعها الجيش اللبناني، مع إدراك أن البنية الطائفية – المذهبية اللبنانية تضاعف حساسية كل إجراء.
• السيناريوهات المحتملة
– سيناريو الاتفاق المرحلي: خارطة طريق تبدأ من الجنوب بتنسيق مع «اليونيفيل»، مقابل دعم اقتصادي دولي (كما تقترح كارنيغي 2022).
– سيناريو التعطيل: بقاء الخطة حبراً على ورق بسبب الانقسام السياسي، وهو ما لمّحت إليه «فرانس 24» (تموز 2025) حين أشارت إلى أنّ «الانقسام الداخلي يحول دون أي تنفيذ فعلي».
– سيناريو الضغط الخارجي: ربط التقدّم في الملف بحزم دعم أو عقوبات، كما ورد في تقرير معهد واشنطن حول العلاقة بين ملف السلاح والمساعدات الدولية.
الخلاصة، إن تكليف الجيش وضع خطة لنزع السلاح غير الشرعي خطوة جريئة لكنها محفوفة بالمخاطر. الجيش، الذي يُنظر إليه كآخر المؤسسات الوطنية الجامعة، سيسعى إلى صياغة خطة تقنية متينة، لكنه سيظل أسير الموازين السياسية والقدرات المحدودة.
• نجاح المهمة مشروط بثلاثة عوامل:
1. غطاء وطني واضح يصدر بمرسوم أو قانون يحدّد فلسفة التنفيذ.
2. دعم دولي وعربي جاد يربط التقدّم في الملف بحزم مساعدات ملموسة.
3. تدرّج حكيم يحمي السلم الأهلي ويُبقي الجيش في موقع «أداة الدولة» لا «طرف النزاع».
من دون هذه الشروط، سيبقى نزع السلاح بنداً مؤجلاً، فيما يواصل الجيش مهمته الأصعب: منع سقوط لبنان في أتون صدام داخلي جديد.
