Site icon IMLebanon

دوما أو إمارة «كبير المفاوضين»

تحل الذكرى السادسة لانطلاق الثورة السورية بعد أيام قليلة على وقع حادثة بالغة الرمزية، مسرحها مدينة دوما في الغوطة الشرقية المحاذية للعاصمة دمشق. ليس حصار المدنيين هذه المرة أو تجويعهم هو الحدث، ولا تناحر الفصائل المسلحة هو العنوان، ولا حتى خرق النظام للهدنة الروسية المعلنة حتى 20 الجاري، وإنما مداهمة مكاتب صحيفة محلية وعدد من مقرات منظمات المجتمع المدني القليلة المتبقية في المنطقة، بعد تكفير العاملين فيها وتهديدهم على يد ما سمي «مواطنين غاضبين»، ثم إغلاقها ومنعها من العمل بقرار من «المحكمة الشرعية».

وجاءت الاحتجاجات الشعبية المزعومة رداً على مقال اتهم بالإساءة للذات الإلهية، لتنطلق حملات تحريض ودعوات إلى التظاهر تمت تلبيتها بحمل السلاح الأبيض ومحاصرة مقرات المجلة والمنظمات معاً، ما دفع الناشطين المدنيين العاملين فيها إلى إخلائها، بعدما رفضت الشرطة المحلية التدخل لمصلحتهم وحمايتهم بذريعة عجزها عن «الوقوف في وجه الشارع». هكذا، حكم على آخر معاقل الاعتدال والعمل المدني في الغوطة بالإعدام، لتطلق يد الفصائل الإسلامية المسلحة في شكل كامل.

والحادثة التي تأتي بعد سلسلة من حوادث حجب الصحف ووسائل الإعلام في «المناطق المحررة»، ومنع أعدادها الصادرة في تركيا من عبور الحدود للداخل السوري، معطوفة على ممارسات تشبه إلى حد بعيد ممارسات النظام في استدعاء الإعلاميين والناشطين إلى المراكز الأمنية لأي ذريعة كانت، تنطوي على أبعاد أكثر تعقيداً من كونها مجرد رد فعل ساخط على مقال مهما بلغ من رداءة أو تهور.

فهي بداية تعيد سيناريو «المخطوفين الأربعة» الذين مرت 4 سنوات على اختفائهم القسري، في ظروف مشابهة، من دوما نفسها، وفي ظل سيطرة الفصيل المسلح نفسه. مع فارق أن الإعادة هذه المرة، تأتي بحِرفية أعلى وحصانة أكبر لمرتكبيها. ذاك أن من داهم المقرات وهدد الناشطين ليسوا ملثمين لا أثر لهم ولا وجه ويسهل ربطهم بالمسلحين من «جيش الإسلام» وممثله السياسي محمد علوش، كما في المرة السابقة، بل هم «مواطنون غاضبون» أخذتهم الحمية ذوداً عن الدين. إنهم «الشارع» الذي لا يمكن التصدي له ولجم مشاعره فيما المسألة بأهمية الذات الإلهية.

وبعكس «الشبيحة» و «البلطجية» و «الأعوان» الذين يرتبطون ارتباطاً مباشراً وصريحاً بأجهزة السلطة، بحسب اختلاف البلدان والتسميات، فهؤلاء هم من أطلق عليهم في لبنان تسمية مدنية بامتياز وهي «الأهالي». وهم من يستعان بهم وبغضبهم للاستقواء على أهالٍ آخرين وترويعهم، حين لا تدعو الحاجة لتدخل غير المدنيين في شؤون مدنية. أو حين تلح الرغبة في إنجاز سريع لا يخلف عواقب ولا يحمل مسؤوليات.

وعليه، وفي ذروة الاستقطاب السياسي وتفوق طرف على طرف، يمكن للأهالي أن ينجزوا بقوة سواعدهم وسورة غضبهم ما يحتاج تحقيقه أحياناً فصيلاً مسلحاً أو سياسياً محنكاً. لا بل يمكن، والحال على ما هي عليه، أن يلعب السياسي دور الوسيط ويرفع خطاب التهدئة، فيما يمنح أعوانه منابر للتحريض ويطلق صبيانه في الشوارع.

وذلك تماماً ما جرى بالأمس في دوما، حيث قدم «المواطنون الغاضبون» خدمة نظيفة للعسكر في طرد الناشطين المدنيين وتعليق أعمالهم ربما لغير رجعة. ولأن ذلك لا يمكن أن يتم بلا تواطؤ «المؤسسات» وتكافلها، تخاذلت الشرطة عن توفير الحماية لمن يحتاجها، فيما أخذت العدالة مجراها عبر إصدار حكم محكمة، لإسكات الأصوات المطالبة بذلك.

والحال أن الضرر هنا لا يقتصر على مجموعة من الناشطين والعاملين في الشأن العام، بل يقطع شريان حياة أساسياً لآلاف الأسر والعائلات المستفيدة من دعم تلك المنظمات وبرامجها، وهو ما كان يتيح شيئاً ولو ضئيلاً من مقومات صمود المدنيين وبقائهم في مناطقهم، ويحصر التعامل الخارجي معهم عبر قناة واحدة هي «جيش الإسلام». لكن الأهم وربما الأخطر، أن ذلك يحرم السكان المحليين من مراكز التوثيق وحفظ سجلات الضحايا والمعتقلين وأرشفة انتهاكات حقوق الإنسان، وإمكانية رفعها لاحقاً إلى محكمة محلية أو دولية.

وإلى ذلك تكمن الطامة الكبرى في أن استباحة من هذا العيار تحظى بحصانة دولية يستمدها مرتكبوها من موقع القيادي في «جيش الإسلام» الذي شغل منصب كبير المفاوضين في جنيف ويشغل رئاسة وفد آستانة. هكذا، يجلس مفاوضاً سلمياً محسوباً على المعارضة وناطقاً باسمها هناك، ويرفع السلاح على أبناء الثورة ونشطائها المدنيين هنا، ليكرس ذلك النهج بصفته مستقبل السوريين الموعود، لا عملاً فردياً أو استثناء طوته أربع سنوات مضت.

وتحمل القضية بعداً آخر يتعلق أيضاً ببيئة المجتمع المدني السوري والمنظمات الدولية الشريكة لها. فالأخيرة، على ما قال مصدر من داخلها، واقعة بين الدفاع عن شركائها المحليين الذين يعتبرون صمام الأمان الأخير المتبقي من مسار العمل السلمي والمدني، وحكوماتها التي تدفعها في هذا الاتجاه لكنها، في المقابل، تقوي أطرافاً تقوضه، وتعترف بها وتتفاوض مع ممثليها. فهي وكأنها في شكل غير مباشر تساهم في إطباق الحصار على المدنيين عبر تكريس سلطات الأمر الواقع والتعامل من خلالها، ثم ملاحقة الناشطين ليل نهار لإثبات مدنيتهم واعتدالهم. أما المنظمات المحلية، التي أصابها ما جرى بصدمة كبيرة، فردت أيضاً بما لا يبشر كثيراً بالخير. فهي صحيح أنها سارعت إلى إعلان تضامنها مع زملائها ورفعت الصوت عالياً بضرورة حمايتهم وعدم التعرض لهم، لكنها فعلت ذلك أيضاً من باب «ولا تحملوا وازرة وزر أخرى»، بما يشي بموافقة ضمنية على أحقية ذلك الغضب الشعبي. وعوض الاكتفاء بالتنديد بمقال رديء وإظهار بعض التماسك والضغط على شركائها الدوليين أو مفاوضين آخرين من زملاء علوش لحل المسألة بأقل الأضرار الممكنة، دُفعت مؤسسة إعلامية ناشئة إلى التنصل حتى من مطلب حرية التعبير… وإعادته إلى حضن الإمارة وبيت طاعتها.