دورة طويلة من الجفاف ضربت لبنان في السنوات الماضية. بلغت ذروتها هذه السنة بعد انخفاض حادّ في كمية المتساقطات إلى ما دون نصف المتوسط السنوي.
وسبق ذلك تدنٍّ في عدد الأيام المطرية، ما انعكس تقلّصاً كبيراً في كميات المياه السطحية، أي من مياه الأنهار والبرك والسواقي. وبالتوازي أيضاً انخفض مستوى المياه في الآبار الجوفية من 30 متراً إلى 40 متراً في بعض المناطق البقاعية. يثير الأمر الكثير من الهواجس عن استمرار القطاع الزراعي المهمل أصلاً في لبنان والذي يعاني من ارتفاع في الأكلاف سيزداد على وقع الجفاف.
تتركز ثروة لبنان المائية في المناطق الساحلية الواقعة بين شاطئ البحر، والمنسوب 240 متراً حيث تتجمّع غالبية السكان وأجزاء مهمة من الأراضي الزراعية، مثل السهل الجنوبي. وعلى امتداد هذه المساحة، يصبّ 15 نهراً بشكل دائم في البحر، ما يؤدي إلى هدر نصف المياه اللبنانية القابلة للاستثمار، أو ما يوازي 510 ملايين متر مكعب سنوياً، تضيع في البحر أو خارج الحدود نحو سوريا وفلسطين المحتلة.
وما تبقّى من الثروة المائية، اجتاحتها الملوّثات الصلبة والسائلة، أو تسرّبت إليها مياه البحر المالحة. أما على مستوى استثمار الثروة المائية، فقد تأجّل تنفيذ مشاريع الريّ العملاقة رغم مرور نصف قرن على إنجاز دراساتها مثل مشروع القناة 800، ولم يُنفّذ من خطة السدود العشرية لبناء 18 سدّاً بقدرة استيعابية تبلغ مليار متر مكعب، إلا سدّان صغيران هما: سدّ الشبروح بسعة 8 ملايين متر مكعب، وسدّ المسيلحة بسعة 2 مليون متر مكعب. وإلى جانب ذلك، فإن معظم شبكات توزيع مياه (الري والشفة) مهترئة أو معتدى عليها وتتجاوز نسبة تهريب المياه فيها نسبة الـ 35%.
إذاً، لا عزاء للمزارعين في «دولة السياحة» اللبنانية. ولا خطط تقيهم أيام القحط المقبلة. وطبعاً لا تعويضات. فالدولة لا تخصّص للزراعة أكثر من 0.4% من الموازنة العامة. ففي موازنة عام 2025، خصّصت الحكومة مبلغ ألف و616 مليار ليرة لوزارة الزراعة فقط، أي نحو 18 مليون دولار من مجمل قيمة الموازنة البالغة 4.8 مليارات دولار، وفي مشروع موازنة 2026، تكرّر الأمر نفسه. وهذا الأمر لم يحصل بفعل القدر خلافاً لما هي عليه حالة الجفاف اليوم. فالزراعة كانت قطاعاً مهماً في الستينيات يسهم في أكثر من 9% من الناتج المحلي الإجمالي، ومع أن الركود بدأ يصيبها في السبعينيات، إلا أن مساهمتها في الناتج سجّلت 8.5% في 1979، لكنها سجّلت تراجعاً هائلاً في الثمانينيات بفعل الحرب الأهلية وتكرّس في التسعينيات مع بدء إعادة الإعمار لتصبح مساهمة الزراعة في الناتج 4.5% في 2006، وصولاً إلى 1% في 2023 بفعل الانهيار المصرفي والنقدي.
هذه البيانات مستقاة من البنك الدولي ومن دراسة صادرة عن «اسكوا» في عام 1999، وهي تشير إلى وصف أطلقه رئيس المركز اللبناني للبحوث والدراسات الزراعية، رياض سعادة في دراسة عن الزراعة في لبنان بأنها انتقلت من «مرحلة الركود إلى الاحتضار».
ففي الواقع، يكشف الإحجام عن تنفيذ مشاريع الري الكبرى إلى جانب السياق التاريخي لحصّة القطاع من الناتج، أن الزراعة معدومة الأهمية ضمن السياسات اللبنانية. ومن عوارض انعدام الأهمية، أنه بحسب دراسة صادرة عن منظمة «فاو» ومؤسسة البحوث والاستشارات «CRI» في 2022، يتعرّض القطاع الزراعي في لبنان إلى: إجهاد مائي، ندرة مياه، استخدام غير عادل للمياه، تلوّث المياه، ارتفاع كلفة الطاقة لضخّ المياه، نقص في معدات الري. ثم في هذا السياق تأتي ذروة الجفاف هذه السنة، كوسيلة لنقل الزراعة من مرحلة الاحتضار إلى الدفن.
يروي المهندس الزراعي حسين رمّال، أن ما قامت به الدولة على مدى العقود السبعة الأخيرة، حفّز تصحّر الأراضي الزراعية. ولا يحصل ذلك بفعل التغيّر المناخي، بل بسبب التطوّرات التي لحقت بالنسيج الاجتماعي والاقتصادي للبنان، من الهجرة إلى هيمنة السوق المالية على نهج الإنتاج والربحية… وفي المحصّلة صار أصحاب الأراضي يمتنعون عن زراعتها.
أما الجفاف الذي يضرب لبنان اليوم، فهو محفّز إضافي تظهر مؤشراته بوضوح. فبحسب عدد من المزارعين، تنخفض العمالة في القطاع الزراعي بشكل مستمر هذه السنة بسبب الجفاف، ويتوقف المزارعون عن زراعة أراضيهم لعدم توافر المياه.
ويقول رئيس جمعية المزارعين اللبنانيين أنطوان الحويّك: «في البقاع، حيث تخفّ كميات المياه المستخرجة من الآبار، يختصر المزارعون المساحات المزروعة. وبعضهم من بين الذين يملكون أراضي متفرقة، يلجأون إلى «إراحة» الأراضي الجافة والاعتماد على الأراضي التي لا تحتاج إلى كلفة كبيرة في نقل أو سحب المياه من الآبار».
لذا، سيدفع المزارعون على الزراعات الموسمية الثمن الأعلى جرّاء تراجع كميات المياه المخصصة للري. ومحصول البطاطا يكبّد المزارعين الثمن الأغلى لتراجع كميات المياه بقاعاً، فهذه الزراعة هي الأعلى كلفة على المزارع، يقول الحويّك، إذ يضطر سنوياً إلى حراثة الأرض وشراء بذور البطاطا والأسمدة المستوردة بالدولار. وفي نفس الوقت هي الأعلى ثمناً عند تصريفها في الأسواق، وتملك عمراً أطول عند التخزين، ما يدفع المزارعين إلى بذل الأموال عليها أكثر من غيرها من المحاصيل.
في الواقع، يُعرض المزارعون عن زراعة «مواسم الخضار مثل البندورة والخيار، والحشائش» وفقاً للحويك. والسبب يعود إلى «انخفاض كميات المياه المتاحة للري، وانخفاض ثمن الخضار بشكل عام، والسرعة التي يتطلّبها تصريف هذه الزراعات». أما الأشجار المثمرة، فهي أكثر مقاومة للجفاف، وتعتمد طرق ري حديثة مثل التنقيط، ما يجعلها أكثر قدرةً على الصمود خلال موسم الصيف. في المقابل، أدّى تراجع المساحات المزروعة بالحبوب إلى ارتفاع أسعارها بشكل عام مثل القمح والحمص والعدس. ووفقاً للحويّك، «سيتأثر الإنتاج الحيواني أيضاً بالجفاف، إذ ارتفع سعر التبن 3 أضعاف هذه السنة».
أما في الجنوب، فضرب تراجع كميات المياه المخصصة للري مزارعي السهل الجنوبي الذي يروى من أحد مشاريع المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، من مياه نبع عين الزرقا. وهذه العين تراجعت غزارتها بنسبة 27% بحسب دراسات المصلحة. كما تراجعت كميات المياه التي توفرها الآبار الجوفية في هذه المنطقة، أو «دخل الماء المالح إليها بسبب انخفاض مستوى الماء العذب فيها»، يقول مزارعون. ولكن، خوفاً من خسارة المواسم الزراعية كلّها، يقومون باستخدام الماء المالح في الري، ويفكرون في حفر آبار جوفية جديدة على أعماق أكبر لتأمين حاجاتهم.
لذا، يتوقع نقيب مزارعي الجنوب محمد الحسيني تراجع الإنتاج بنسبة تصل إلى 20% للأشجار المثمرة مثل الحمضيات والأفوكا والموز. فالمحاصيل في هذه المنطقة كانت تسقى 5 أشهر في السنة فقط، يقول الحسيني، من أيار حتى أيلول. أما اليوم، فيستمر الري حتى تشرين الثاني، وهذه السنة بدأ ضخ المياه على المزروعات في آذار بسبب انخفاض كمية الأمطار المتساقطة.
وبسبب تراجع كميات المياه، «يعتمد المزارعون على محاصيل الأشجار المثمرة، ويحجمون عن زراعة الخضار التي تحتاج إلى وتيرة ري أعلى»، وفقاً للحسيني.
وللسبب نفسه، بدأت مصلحة الليطاني بتوزيع الماء بالدور على البساتين، ما أدخل المزارعين في حالة من «الفوضى المائية»، وفقاً لتوصيفهم، فالمصلحة تقوم بتجميع المياه، ثمّ تحوّلها إلى منطقة محدّدة لريّها. بحسب محمد نحولي، أحد مزارعي الموز والحمضيات في السهل الجنوبي، «برامج الري تتغيّر يومياً، وأحياناً تحوّل المياه إلى البساتين لأوقات قليلة لا تكفي لري كلّ المساحة المزروعة، ما يعرّض المزروعات لليباس». أما أكثر المزروعات تضرراً بانخفاض كميات المياه، فهي الموز، يقول نحولي، متوقعاً انخفاضاً في الكميّة المنتجة هذه السنة، بينما الحمضيات أكثر مقاومةً للجفاف.
مجزرة الحمضيات في الساحل الجنوبي
تعاني الزراعة المروية في لبنان من إهمال مزمن، وغياب تام للتخطيط رغم كلّ المؤتمرات والمفردات التي لا تعدو سوى محاولات مشابهة لـ«رفع الغبار عن أكياس نفايات». ويعود ترك القطاع الزراعي للتخبط، إلى سبعينيات القرن الماضي حين وقعت «مجزرة الحمضيات». حينها، أقدم مزارعو الليمون على اقتلاع الشجر من السهل الجنوبي، وزراعة الموز الذي لا ينتمي إلى هذه المنطقة محلّه.
وخلال 20 سنة، احتلّت شجرة الموز نحو 60% من مساحة السهل الجنوبي، وبات لبنان ينتج موزاً يفوق حاجة السوق المحليّة. أما أسواق التصدير، وأولها الأسواق العربية، فأغلقت أمام الموز اللبناني، إما لأسباب سياسية مثل حالة التصدير البرّي المتوقف حالياً بسبب «الأوضاع المضطربة» مع الدولة السورية، أو لأسباب اقتصادية.
فاستيراد الموز من أفريقيا أو أميركا اللاتينية أقل تكلفة من الموز اللبناني. ويذكر أنّ زراعة الموز هي الأكثر عرضة للضرر بسبب الجفاف نظراً إلى حاجتها المرتفعة إلى المياه، وهذا ما يعانيه مزارعو الموز اليوم. ما سينعكس لاحقاً ارتفاعاً في كلفة هذه الزراعة.
الحيازات الكبيرة تهجر الفلاحين
يصف الباحث في المجال الزراعي حسين رمال ظاهرة سيطرة كبار المالكين على الأراضي الزراعية بـ«الجائحة». وفي تفسير لهذه المشكلة التي تُبعد الفلاحين الفقراء عن الأراضي الخصبة والمناسبة للزراعة.
ويشير إلى أنّ عدد الحيازات الزراعية التابعة لمشروع ري القاسمية ورأس العين، يصل عددها إلى 1290 حيازة بمساحة إجمالية تقدّر بنحو 3100 هكتار.
ويمتلك 5% فقط الحائزين نحو 60% من المساحة الإجمالية، كما إنّ 90% من مالكي البساتين يعيشون خارج القطاع الزراعي. بالنسبة إلى مالكي الأراضي الزراعية الكبيرة (الحيازات)، الزراعة عبارة عن نشاط هامشي إلى جانب عملهم الأصلي في قطاع الخدمات أو في المهن الحرّة التي تدرّ عليهم مردوداً عالياً، ما يسمح لهم بشراء البساتين الزراعية وتحويلها إلى مشاريع عقارية.
وفي حال أراد هؤلاء الاستفادة من المردود الزراعي للأرض، فيقومون باستثمارها بطريقة «الضمان»، وهي ظاهرة منتشرة في السهل الجنوبي والبقاع الغربي، ولكنّها تؤدي إلى «استثمار مكثف» للأرض الزراعية، إذ يستخدم الضامنون كميات كبيرة من الأسمدة بغية زيادة الإنتاج ومضاعفة أرباحهم. وتسهم هذه الطريقة في الزراعة في تلويث المياه الجوفية بالأسمدة الكيميائية، وهو ما يعرف بـ«التلوث الزراعي».
151,918 هكتاراً
هي مساحة الأراضي المروية موسمياً وتمثّل 56% من المساحة المزروعة وهي تحتاج إلى الكميات الأكبر من المياه
74,596 هكتاراً
هي مساحة الأراضي الزراعية المستغلة في محافظة بعلبك الهرمل وتمثّل 27% من الأراضي الزراعية المستغلة في لبنان
23 في المئة
من الأراضي الزراعية في لبنان مزروعة بأشجار الزيتون وتصل المساحة المزروعة إلى 62 ألفاً و74 هكتاراً من أصل 271 ألفاً و412 هكتاراً من الأراضي الزراعية
