الطاقة الإستيعابية للمستشفيات وصلت إلى الخط الأحمر وعدّاد “كورونا” لا يتوقّف
مع اتجاه لبنان إلى تمديد الإقفال 15 يوماً إضافياً بعد 24 كانون الثاني، إزدادت خشية أصحاب المؤسسات من انهيارات بالجملة ستصيب القطاع الخاص. فالتخبط الحكومي والفشل في مواجهة الأزمتين الصحية والاقتصادية سيرتبان نتائج كارثية.
بين “الموت” اقتصادياً جراء الاقفال العام، والموت فعلياً بفيروس كورونا، واستنزاف القطاع الصحي، جدلٌ عالمي. أغلبية الدول حسمت النقاش في بداية الوباء لمصلحة الخيار الثاني، لتعود بعد تحصين قطاعها الاستشفائي والبدء بالتلقيح لتخفف من إجراءات الاقفال العام. فهل يصح ما جرى في دول العالم على لبنان؟ وهل أصاب القطاع الخاص في الاصرار على مطالبته بتخفيف إجراءات الحجر؟
العدوى لا تنتقل في المؤسسات!
ينطلق رجل الأعمال ريكاردو حصري بالتعليق على الإقفال العام بسؤال مفاده: لماذا هذا الاجراء مجحف بحق الشركات الخاصة والتجار وكل مؤسسات القطاع الخاص؟ ليجيب أن أغلبية الشركات ملتزمة بتطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي والتعقيم وإلزامية وضع الاقنعة وقياس الحرارة للموظفين والزبائن، وذلك على عكس أكثرية مؤسسات القطاع العام. أما تلك غير الملتزمة فلتتفضل الدولة وتلزمها بتطبيق الاجراءات الوقائية. وفي فيديو مصور شرح حصري التدابير الوقائية المتخذة في شركته. وهي تظهر إتباع أقصى درجات الحيطة والحذر ابتداءً من وجود لوحة إرشادات صحية على المدخل، تُلزم الداخلين بالتعقيم وإرتداء القناع وقياس الحرارة، مروراً باحترام قواعد التباعد بين الموظفين، وبينهم وبين الزبائن، وتأمين المعقّمات في كل الأقسام، وصولاً إلى فصل المخرج عن المدخل لمنع الاكتظاظ والتلاقي بين الداخلين والخارجين. حصري إعتبر أن الإستمرار في الإقفال العام المفروض يحرم الشركات من المدخول ويعيق تأمين الرواتب، ويحد من قدرة العمال على تأمين متطلباتهم الحياتية الأساسية من مأكل ومشرب.
قدرة الشركات على الصمود تتراجع
القرارات “الخنفشارية” كما يصفها حصري، “أجبرت القطاع الخاص على الاقفال 4 مرات في العام 2020، واستهلت العام الحالي بالاقفال أيضاً، وهو ما سيضعف قدرة الشركات على الصمود. وبالتالي يجب على السلطة “تعليق الاقفال ولعب دور المراقب والضابط. وليس تحميل القطاع الخاص مسؤولية فشلها في تجهيز المستشفيات، الحكومية منها تحديداً، والاستعداد لمجابهة الوباء بعد أكثر من سنة على انتشاره”. وبرأيه فان “استخدام 10 في المئة من كلفة الاقفال لمدة أسبوع، كفيلة بتجهيز مستشفيات لبنان”.
فوضى عارمة
المقاربة التي تعتمد على الوعي الفردي أو الجماعي من جهة، ورقابة الدولة الصارمة من جهة ثانية اثبتت فشلها في لبنان. ولعلَّ ما حدث في الفترة الممتدة بين 24 و31 كانون الاول من العام الماضي خير دليل على ذلك. فالسماح بالفتح مع ضوابط، سرعان ما يتحول إلى فوضى عارمة. والمشكلة انه لم يعد هناك من طاقة صحية وإستشفائية لاستيعاب نتائج هذه الفوضى. فلا أسرّة في المستشفيات ولا قدرة على استحداث أقسام جديدة، وعجز فاضح عن إستيراد أبسط المستلزمات من أدوية وماكينات أوكسجين. أمّا عداد الاصابات والوفيات فهو مستمر في الارتفاع. فبأي منطق سنفتح البلد ونسمح للمؤسسات بمزاولة عملها بشكل طبيعي؟ “بمنطق عدم صوابية الفصل بين الصحة والاقتصاد”، يقول رئيس جمعية تراخيص الامتياز (الفرانشيز) في لبنان يحيى قصعة. “فالخطأ القاتل الذي جرى تسويقه منذ بداية الأزمة هو “المفاضلة بين الاقتصاد والصحة”. وذلك على الرغم من أنهما يسيران كتفاً الى كتف. فلا الفرد يستطيع العيش من دون صحة جيدة، ولا أيضاً من دون دخل يؤمن به مأكله ومشربه”.
الحلول العلمية متوفرة
إنطلاقاً من هذا الواقع قدمت جمعية تراخيص الامتياز حلاً يقوم على أسسس علمية. حيث لا يتوجب على الدولة في كل مرة تزداد فيها أعداد الأصابات بشكل كبير البدء بالاجراءات من نقطة الصفر، واللجوء إلى الإقفال بشكل كامل كحل وحيد. بل عليها وضع معايير واضحة وعادلة للمراحل الوبائية التي يمر بها البلد. ومن الممكن تقسيم هذه المراحل إلى ثلاث:
– حمراء، تمثل الخطر الشديد. وفي هذه الحالة تستمر الشركات والمصانع التي تمثل حاجة ملحة للداخل والخارج فقط بالعمل، وبنسبة إشغال محددة تتراوح بين 15 و20 في المئة. وذلك من أجل تأمين ديمومة العمل واستمرار التواصل مع الخارج وتلبية الطلبيات وتنفيذ العقود المحددة بفترات زمنية. وتُقفل أقسام التسويق بالتجزئة، وكل ما لا يتعلق بالحاجات الملحة والضرورية. أمّا التمييز بين الشركات فيتم من خلال جدول يوضع لمرة واحدة، مبني على معلومات الضمان الاجتماعي وطبيعة الرخص. كما ان هذه الآلية تساعد على “فلترة” الاقتصاد الشرعي عن غير الشرعي.
– برتقالية، تمثل خطراً متوسطاً. يعاد فيها السماح لقطاعات التجزئة والمطاعم والمصانع بالعمل، وترفع نسب العمال المداومين في المؤسسات، مع التركيز الدائم على اتباع إجراءات الوقاية والسلامة العامة.
– خضراء، تمثل خطراً منخفضاً. حيث يسمح في هذه المرحلة بالعودة إلى ممارسة الاعمال ومختلف الانشطة الاقتصادية بشكل شبه طبيعي.
“وهكذا يجري الاعلان كل 15 يوماً عن الحالة الوبائية وينتقل الاقتصاد من مرحلة إلى مرحلة بهدوء وبرؤية واضحة ومن دون تعطيل الانتاج”، يقول قصعة. “فنحن لسنا دعاة فوضى بل همّنا حماية البلد بكل قطاعاته وأطيافه”.
آخر الدواء الإقفال
جائحة كورونا التي أدت بحسب تقارير البنك الدولي إلى أكبر تدهور إقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية أعجزت دولاً متطورة في التعامل معها، فكيف الحال بلبنان الغارق بكل أشكال وأنواع الأزمات! إلا أن هذا لا يعني، بحسب عضو لجنة متابعة أزمة كورونا نبيل رزق الله، “أننا لم نكن قادرين منذ الاساس على اتباع الخطوات السليمة وتجنيب البلد كأس الاقفال المرة”. فعلى الرغم من ان الاقفال عادة ما يكون آخر الدواء يظهر انه “أصبح الدواء الوحيد”، يقول رزق الله. “خصوصاً مع التفشي الكبير للوباء وانعدام قدرة المستشفيات على استيعاب المزيد من الحالات”.
المؤسف ان فوائد الاقفال الاجباري في الحالة اللبنانية سواء كان لمدة أسبوع أو 15 يوماً او حتى شهر تبقى موضعية، وتنتهي فور تعليق الاقفال. حيث لا يسجل للبنان اتخاذه الخطوات الضرورية التي تسمح باستئناف الاعمال بشكل سليم بعد الاقفال. وبحسب رزق الله فان هذه الاجراءات تتركز: أولاً، على تنفيذ اوسع عملية فحوصات pcr لتحديد الحالات الايجابية قبل ان تظهر عليها العوارض. وهذا ما فعلته ايطاليا ونيويورك على سبيل المثال لمحاربة الوباء في مرحلة الذروة. ثانياً، تنفيذ سياسة التتبع للحالات الايجابية وعزل المخالطين. ثالثاً، توسيع القدرة الاستيعابية للمستشفيات، وتحديداً الخاصة التي تملك 80 في المئة من القدرة الاستشفائية. والعمل على إصلاح الاستراتيجية التي ركزت على اغداق الاموال على المستشفيات الحكومية وإهمال الخاصة. فكانت النتيجة تقديم القطاع العام 200 سرير في وحدات العناية المركزة فقط. مع العلم انه بحسب دراسة سابقة فان حالة الذروة لكوفيد-19 تتطلب تشغيل 61 في المئة من أصل 1500 وحدة عناية مركزة موجودة في لبنان، و36 في المئة من غرف المستشفيات، التي يجب على الدولة تسديد بدلاتها. وهذا ما لم تفعله الدولة بحسب رزق الله.
لجنة متابعة ازمة كورونا قدمت توصيتين لاجبار المؤسسات في القطاع الخاص ممن تشغّل اكثر من 100 موظف على اجراء فحوصات كل اسبوعين لعمالها من أجل ان تستمر بالعمل. “لكن هذه التوصية رفضت بحجة عدم القدرة على تحمل الكلفة”، يقول رزق الله. “مع العلم ان كلفة الفحوصات المقدرة بين 50 و100 الف ليرة على الموظف تبقى أقل بكثير من كلفة الاقفال”. ومع لجوء الدولة إلى الاقفال العام ندخل في دائرة مغلقة. فالاقفال يقلل من العائدات للدولة، ونقص المداخيل يمنعها من تجهيز المستشفيات او الدفع لها، والنقص في جهوزية المستشفيات وفتح أقسام جديدة يفرض علينا العودة إلى الاقفال… وهكذا دواليك نبقى عالقين في وسط الازمة من دون مخرج.