بحكم عيش الإنسان في مجتمعات غالباً على شكل بلدان، يظهر التشريع كضرورة لا يُمكن الإنسان تحقيق تطلعاته وحاجاته المادية والمعنوية، إلا من خلالها. والتشريع هو عبارة عن مجموعة من القوانين التي تُعتبر أساسية في المجتمعات لاستقامة الحياة، وبالتالي تُشكل هذه القوانين ما يُسمّى بالنظام.
في الدستور لا يُوجد شيء اسمه تشريع الضرورة، لأن المُشرّع يقوم بدوره على مدار السنة، وبالتالي كل حاجة لتشريع جديد يُمكن أن تُترجم إلى تشريع عبر سلوك الطريق الذي ينص عليه الدستور اللبناني. وبذلك يُمكن القول أن الطريق الطبيعية للتشريعات هو دراسة المشاريع في الحكومة، ليتم بعدها تحويل المشاريع للدرس في اللجان النيابية، وبعدها إلى الهيئة العامة لمجلس النواب. وهناك الاقتراحات المُعجّلة والتي تحتاج إلى توقيع عدد محدد من النواب لكي يتمّ إحالتها مباشرة على اللجان من دون المرور في الحكومة.
منذ أيار العام الماضي ومنصب الرئاسة الأولى شاغر. شاغر لأسباب عديدة على رأسها اجتهادات فردية في تفسير النصوص القانونية الواضحة، والتي يزعم البعض أن حضور الجلسات الانتخابية ليست إلزامية. وهذا الواقع، ممزوجاً بانقسام سياسي حاد بين قطبين رئيسيين، أدّى إلى تعطيل الحكومة ومعها المجلس النيابي.
الدستور اللبناني واضح، فهو ينص على أن مجلس النواب، وفي حال شغور منصب الرئاسة الأولى، يتحوّل هيئة ناخبة مهمتها الوحيدة انتخاب رئيس للجمهورية.
استطاع مجلس النواب الحالي الاجتماع للتجديد لنفسه وللتجديد للجان النيابية من دون أي إشكال يُذكر. لكنه فشل وعلى مرّ 30 جلسة، في تأمين نصاب انتخاب رئيس للجمهورية. وهنا تكمن المخالفة الأساسية، إذ من غير المعقول أن لا يكون الحضور إلزامياً للنواب لانتخاب رئيس للجمهورية.
لست مثالياً في طروحاتي ولكن أليس تطبيق القانون وحضور جلسة انتخاب رئيس للجمهورية هو واجب؟ هل أصبحت التشريعات الأخرى تشريعات ضرورة أكثر من ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية، وكلنا يعلم مدى خطورة استمرار الفراغ الرئاسي على عمل الحكومة والمجلس النيابي، وحتى على السلم الأهلي؟
بطلب من رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه برّي، اجتمعت هيئة مكتب المجلس لدرس مشاريع القوانين وتصنيفها وفق الضرورة. وللأسف، لم نرَ أن انتخاب رئيس للجمهورية على اللائحة. وقد يقول البعض إن رئيس المجلس دعا إلى 30 جلسة حتى الساعة، ولكن النصاب لم يكتملّ. أليس من المنطق أن نجعل انتخاب رئيس للجمهورية البند الأول على جدول هذه الجلسة، وبذلك يكون اسمها يعكس طبيعتها، أي الضرورة؟
يتناول بعض المسؤولين موضوع التشريعات المالية التي من دونها ستنهار الليرة اللبنانية. هذا الحديث هو مغالطة وتضليل للرأي العام اللبناني. هناك ثلاثة أقسام منفصلة لهذا الملف يتوجب الحديث عنها:
الأول له علاقة بالوضع المالي للدولة اللبنانية التي تُراكم العجز في شكل مزمن منذ عقود. ومع الوضع الاقتصادي المُتردّي، تحوّل هذا العجز ديناً عاماً يزيد كل عام بوتيرة كبيرة، إلى درجة أصبح فيها عبئاً على النمو الاقتصادي في ذاته. والأوضاع السياسية والأمنية، وخصوصاً التعطيل الناتج من غياب رئيس للجمهورية، زادت في تراجع الاقتصاد، إلى درجة دفعت وكالات التصنيف الإئتماني إلى خفض النظرة المُستقبلية للبنان من مُستقر إلى سلبي. وهذا يعني أن استمرار الأوضاع على ما هي عليه سيؤدّي إلى خفض تصنيف لبنان الإئتماني. هذا الأمر سيُشكّل كلفة على المصارف المُلزمة إعادة تكوين رأسمالها طبقاً للمعايير الدولية. لكن المُشكلة التي يمكن أن تظهر هي امتناع بعض المصارف العالمية من التعامل مع المصارف اللبنانية نظراً لتصنيفها الإئتماني. وهذا الأمر له حلول من ناحية عدم وجود استثمارات لهذه المصارف في لبنان ووجود منصات مصرفية إقليمية تسمح بتفادي العزل.
الثاني له علاقة بإقرار مشاريع قوانين مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب كما نقل الأموال عبر الحدود. هذه المشاريع أساسية لأن لها علاقة بمصداقية لبنان، وعدم إقرارها يعني أن لبنان سيكون على لائحة الدول غير المُتعاونة، ما قد يؤدي إلى الانتقاص من صورة المصارف اللبنانية في الخارج. لذا نطرح السؤال: لماذا لم يتمّ إقرار هذه المشاريع في الجلسات السابقة للمجلس النيابي، مع العلم أن الفرصة كانت سانحة؟ إن عدم إقرار هذه المشاريع لا علاقة له بانهيار الليرة اللبنانية لأن مداه الأقصى تشويه صورة المصارف اللبنانية وصورة لبنان. وعلى الرغم من أهمية هذه المشاريع، نرى أن انتخاب رئيس للجمهورية وملف النفايات يبقيان ضرورة أكبر من إقرار هذه المشاريع.
الثالث له علاقة بالقروض الدولية للبنان، وهنا نسأل: هل هناك من هبات؟ الجواب لا! كلها قروض، نعم قروض لمشاريع لا نعرف مدى الكلفة على الافادة منها. من قال إن هذه المشاريع هي أولوية؟ هل الوقت ملائم لصرف 400 مليون دولار أميركي بغياب نظرة اقتصادية، وكيف يُمكن تحويل هذه القروض إلى إنماء اقتصادي؟ هل الوقت ملائم مع كل الفساد والهدر المُستشريين؟ أليس من الضروري وضع خطة حقيقية وفعّالة لإدارة الدين العام ومحاربة الفساد وإجراء إصلاحات إدارية؟ لماذا لا يتمّ إقرار الشركة ما بين القطاع العام والخاص؟ أليس هذا الحل هو بديل للقروض الخارجية؟
اليوم لا خوف على الليرة اللبنانية من الانهيار لأن الوضع الهيكلي المالي لم يتغيّر وبالتالي لا يُوجد أي سبب لتغير العوامل الضاغطة على الليرة اللبنانية، باستثناء العجز وضعف النمو. أضف إلى ذلك حجم الاحتياط اللبناني من العملات الأجنبية والذهب، وحجم أصول وودائع المصارف اللبنانية والتي تسمح بامتصاص أي صدمة مالية قد تضرب لبنان.
في الختام نقول لا للسياسة في التشريع، لا للاختراعات والاجتهادات الفارغة لإدارة حياة المواطن اليومية. إن تشريع الضرورة هو بدعة هدفها تحويل الأنظار عن انتخاب رئيس للجمهورية. هل مشاريع مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ونقل الأموال عبر الحدود أصبحت أكثر ضرورة من ملف النفايات؟ هل أصبحت قروض البنك الدولي أكثر ضرورة من لجم العجز في الموازنة ومن خطة اقتصادية لتحفيز النمو؟
لا تشريع ضرورة في ظل غياب رئيس للجمهورية، وهذا موقفنا الثابت.
¶ وزير الاقتصاد والتجارة.