كتاب جديد للنائب السابق إيلي كيروز بعنوان “حزب الله ولبنان: خطان لا يلتقيان”, يجدد قدرتنا على الغوص في أعماق المشهد اللبناني من زاوية تحليلية رصينة، مدعومة بالدقة التاريخية والوضوح السياسي، الكتاب الصادر حديثاً عن دار سائر المشرق هو شهادة فكرية على واقع تتخبط فيه الدولة اللبنانية منذ عقود، حيث يرسم كيروز بأسلوبه التحليلي الدقيق صورة لـ “حزب الله” ككيان أيديولوجي منفصل عن الإطار السياسي اللبناني، يسعى إلى فرض واقع يتناقض مع الإجماع الوطني ومفهوم الدولة الحديثة.
في تمهيده، يوضح كيروز أن “حزب الله” هو الحزب الذي صادر قرار الحرب والسلم في لبنان، متجاوزاً مؤسسات الدولة الشرعية، وزجّ البلاد في نزاعات لا علاقة لها بمصلحته الوطنية، بل تصب في خدمة الجمهورية الإسلامية في إيران. فمنذ إعلان ما سُمي بـ “جمهورية بعلبك الإسلامية”، سار “الحزب” وفق استراتيجية مدروسة لفرض سيطرته الكاملة على لبنان، مستغلاً هشاشة التوازنات الداخلية، ومتخذاً من الانقسام السياسي والطائفي وسيلة لترسيخ مشروعه العقائدي.
لا يكتفي الكتاب بطرح المعادلة التقليدية التي ترى في “حزب الله” معضلة سياسية فحسب، بل يتناول جوهر أزمته، كونه مشروعاً عقائدياً متكاملاً يقدّم ثقافة الموت على متطلبات الاجتماع السياسي اللبناني. هذه النقطة، التي لطالما أدركها كيروز في أبحاثه وكتاباته، تُبرز استحالة التوفيق بين لبنان الوطن ولبنان الولاية. فـ “الحزب”، من خلال منظومته العقائدية، لا يعترف بالدولة اللبنانية ككيان مستقل، بل يراها ساحة جهادية لولاية الفقيه، ما يجعل مسألة اندماجه في النسيج اللبناني خارج إطار الممكن سياسياً ووطنياً.
من بين الفصول الثلاثة والعشرين التي يضمها الكتاب، استوقفني الفصل الرابع: “استعصاء اللبننة واستحالة الشفاء”، وقد وقع اختياري عليه نظراً لضيق مساحة المقال في الجريدة، على أمل التوسع في تناول الفصول الأخرى في مقالات لاحقة. في هذا الفصل، يرى الكاتب أن استعصاء اللبننة واستحالة الشفاء يشكّلان الإشكالية الجوهرية في فهم طبيعة “حزب الله”. يقدّم كيروز تحليلاً دقيقاً لموقع “الحزب” ضمن البيئة السياسية اللبنانية، موضحاً كيف أنه يشكّل كياناً غريباً عن تجربة الأحزاب اللبنانية منذ الاستقلال. فبينما نشأت الأحزاب اللبنانية ضمن إطار تعددي يعكس تنوّع المجتمع اللبناني، يقوم “حزب الله” على عقيدة دينية سياسية تتجاوز لبنان في انتمائها وولائها، إذ تُمنح الأولوية لسلطة المرشد الإيراني على حساب أي التزام وطني لبناني.
هذه الحقيقة ليست مجرد افتراض نظري، بل تؤكدها مواقف “الحزب” وسلوكياته منذ تأسيسه، إذ إن خطابه السياسي وأفعاله الميدانية تكشف أن مشروعه لا يتماهى مع لبنان الدولة، بل يتناقض معه جوهرياً. هنا، يسجّل الكاتب نقطة بالغة الأهمية حين يرصد تعارض “الحزب” مع إرث النهضة العربية، الذي كان مرتكزاً على فصل الدين عن السياسة وإقامة أنظمة سياسية حديثة. فبينما سعت شخصيات كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي إلى تحديث الفكر السياسي الإسلامي، يُعيد “حزب الله” إحياء مفهوم الحكم الديني المطلق الذي يُلغي مفهوم الدولة الحديثة.
“الحزب” ليس مجرد لاعب محلي، بل هو امتداد لمشروع إقليمي يسعى إلى تغيير هوية لبنان ككيان مستقل، واستبداله بدولة تابعة للجمهورية الإسلامية الكبرى التي تحكمها ولاية الفقيه. في هذا الإطار، لا يمكن الحديث عن تسوية سياسية أو توازن داخلي مع حزب يرى في نفسه جزءاً من منظومة دولية لا تعترف بالحدود ولا بسيادة الدول، بل تخضع لسلطة دينية خارجية.
في الفصل الرابع، يصل الكاتب إلى استنتاج حتمي: لا يمكن التوفيق بين لبنان كدولة ذات سيادة، وبين “حزب الله” كمشروع ديني سياسي عابر للحدود. فاللبننة، بالنسبة لـ “الحزب”، ليست خياراً سياسياً، بل عائق أمام تمدده الإقليمي وأهدافه العقائدية. لذا، لا مجال للحديث عن شراكة وطنية مع كيان يرى لبنان مجرد منصة لمشروعه الخارجي.
وكما بدأنا هذا المقال بالتمهيد، لا بد لنا أن نختتمه بذكر الإهداء الذي خصصه النائب السابق إيلي كيروز لشخصين كانا الأقرب إلى روحه ورفيقَي دربه في النضال، وقد انتقلا إلى دنيا الحق. أولهما شقيقه شارل، الذي كان الداعم والمشجع على تأليف هذا الكتاب، أما الثاني، فهو شريكه في الرؤية العامة والمبادئ الأساسية، كما في مواجهة التحديات ومسارات النضال الشاقة والوفي للقضية اللبنانية، بعيداً من الأضواء والمظاهر، مخايل عوّاد (مخول).
