Site icon IMLebanon

نقابة المهندسين والدولة بين القوات و الشيوعي

 

أول خطوة خطاها جورج حاوي بعد الطائف زيارة سمير جعجع في غدراس. معنى الزيارة الصريح والمضمر أن الوحدة الوطنية ليست شرطاً أساسياً لوقف الحرب الأهلية فحسب بل لمواجهة التدخلات الخارجية أيضاً. وأول تصريح نطق به سمير جعجع بعد خروجه من السجن أن لبنان الذي يريده لم يعد ذاك الممتد بين المدفون والأولي، بل بين القليعات والقليعة. يمين راديكالي ويسار راديكالي كان ينبغي، نظرياً، أن يلتقيا انطلاقاً من تلك الزيارة وذاك التصريح، ليعملا معاً لبناء السلم بعد أن تواجها بشراسة في الحرب.

 

بعد استقالة جورج حاوي من الأمانة العامة، تراجعت قيادة الحزب عن مشروع المصالحة الوطنية، أول الضحايا خمسة وعشرون مهندساً شيوعياً تم فصلهم من التنظيم الحزبي، ذنبهم أنهم خالفوا موقف القيادة من الانتخابات النقابية. خمسة وعشرون هم الضحية الصغرى، أما الكبرى فهي تراجع الحزب من لغة الوحدة الوطنية إلى مفردات الحرب الأهلية بتشجيع من الشقيقة في ظل نظام الوصاية.

 

بعد ثلاثة عقود على انهيار المشروع الاشتراكي عاد حزب القوات إلى نغمة التخويف من الشيوعية ومعه كورس من القيادات السياسية والإعلامية ومن الذباب الإلكتروني. المناسبة هي ذاتها، المهندسون وانتخاباتهم النقابية، والتفسير واحد تراجع عن لغة الوحدة الوطنية التي كانت هي الأساس في لقاء غدراس.

 

لقاء غدراس حصل بين رئيسين مقتنعين بالعودة إلى حضن الوطن الواحد الموحد، حاوي عاد من تحالف دول الطوق وجبهة الصمود والتصدي وقوى التحرر التي اختصرتها جبهة الممانعة، ربما لهذا السبب قضى اغتيالاً، فيما تراجع جعجع إعلامياً على الأقل عن الوطن القومي المسيحي. عودة كل منهما بمفرده لا تحتاج إلى أكثر من قرار. أما عودة الحزبين فتحتاج إلى مخاض طويل وصعب لم ينجح أي منهما في ولوجه. الحزب الشيوعي جهر بعدم الاستجابة لأمينه العام، ورجع القهقرى متخلياً عن قرارات المؤتمر السادس واستمر على هذه الحال من التدهور حتى ثورة 17 تشرين. فيما اقتصر النقد الذاتي القواتي على قضية العلاقة بإسرائيل وظل الحزب يتصرف لبنانياً كمنافس على الرئاسة وعلى التمثيل المسيحي.

 

لا الحزب الشيوعي ولا القوات أدركا أن فكرة الوحدة الوطنية هي نقيض التحرر الوطني. كلاهما دخل إلى الحرب من باب التحرر الوطني، وكلاهما خرج منها وأبقى الباب ذاته مفتوحاً، لخوض معارك أخرى ضد أعداء الخارج، الإمبريالية والصهيونية عند أحدهما وسوريا وإيران عند الآخر، وفي الحالتين سيجد كل منهما من أبناء وطنه خصوماً. بل أبقياه مفتوحاً أمام آخرين ذاهبين إلى حج التحرر بعد انتهاء موسم الحج.

 

ثورة 17 تشرين وضعت الحزبين على المحك وفضحت قصورهما عما ورد في إعلان النوايا في غدراس. الشيوعي دخل إلى الثورة كطرف ممانع متمسكاً بخطابه الاقتصادي عن الرأسمال المتوحش وعن النظام الطائفي، والقوات دخل إليها لا لإصلاح النظام بل لإصلاح الخلل في التمثيل المسيحي. الشيوعي في رياض الصلح كان حليفاً معلناً لمهاجمي المصارف والنظام المصرفي جملة وحليفاً غير معلن لراكبي الدراجات المعتدين على الثوار، وفي دوار كفررمان لقن الممانعين درساً لا أعتقد أنهم قادرون على نسيانه؛ وعناصر القوات في الساحات أشداء ذوو بأس يتنافسون مع العونيين على العلمنة، ويستبعدون أي شكل من التعاون مع حزبهم الأم، حزب الكتائب.

 

انتخابات نقابة المهندسين فضحت المواقف الملتبسة. كان على المنخرطين في الثورة وعلى أصدقائها ومؤيديها، ومنهم القوات، بدل فتحهم أبواباً مغلقة على جثة حلف وارسو، أن يرحبوا بخطوة الشيوعي الجريئة التي استعاد فيها، فضلاً عن مهندسيه المفصولين منذ ثلاثة عقود، موقعه الطبيعي في مواجهة أحزاب السلطة، بعد أن قضى عقوداً مع أصدقاء لدودين أذاقوه طعم المر مرات ومرات في جبهة الممانعة.

 

هذه ليست مفاضلة بين الأحزاب. الحزب الشيوعي القديم مات، اليساري الجديد، يا حضرة الشيوعيين والقواتيين، هو من يناضل من أجل إعادة بناء الوطن واسترداد الدولة من مغتصبيها أهل الفساد والإفساد، لا من أجل الاشتراكية ولا من أجل دكتاتورية البروليتاريا ولا من أجل استرداد صلاحيات رئيس الجمهورية من أهل السنة.

 

فضلاً عن ذلك، لا حزب القوات ولا أي حزب طائفي آخر، ولا الحزب الشيوعي القديم ولا أي يسارقديم آخر سيكون له دور في إعادة بناء لبنان الجديد الذي تطمح إليه الثورة، لكن على القواتيين والشيوعيين، والحزبان غنيان بالكفاءات، أن يستعيدوا مضمون لقاء غدراس، وأن يعملوا معاً في نقابة المهندسين وفي كل النقابات ومع المخلصين في كل الأحزاب وفي صفوف غير الحزبيين، لبناء حزب أو أحزاب وطنية ديموقراطية غير استبدادية وغير ميليشيوية، مسترشدين بالثورة نموذجاً للتنوع والتعدد واحترام الآخر، وإطاراً جامعاً للمناضلين من أجل وطن سيد حر مستقل ودولة دستورية ديموقراطية هي دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص وتداول السلطة والفصل بين السلطات.