Site icon IMLebanon

الأب جوزيف مكرزل: رجل ظلّ في زمن الضجيج

 

 

 

في زمنٍ تُقاس فيه القيمة بالضجيج، والنجاح بالصورة، والإنجاز بسطوع الاسم، اختار الأب الدكتور جوزيف مكرزل أن يسلك طريقًا آخر: طريق العمل الهادئ، والفعل المُتّزن، والمعنى العميق.

تعرّفت إليه طالبًا في مكتبة جامعة الروح القدس – الكسليك، حيث لم تكن الكتب وحدها تسكن الرفوف، بل كانت تحرّض على الأسئلة وتدعو إلى الرحلة. كان يدير المكتبة بصفته الرسمية، نعم، لكنّه في الجوهر كان يُدير فضاءً روحيًا وفكريًا، يرى في المعرفة سبيلًا إلى الحرية، وفي الأرشيف ذاكرة أمة لا تحتمل النسيان.

 

لم يكن اهتمامه بالتوثيق ابن الساعة، بل امتدادًا لمسيرة أكاديمية متجذّرة في اختصاصه الدقيق: تاريخ لبنان في العصور الوسطى، ولا سيما التاريخ الماروني. لم يتعامل مع هذا التراث كمادة باردة أو محايدة، بل كجذور حية في كيان لبنان الحديث. لم يكن شغفه بالتاريخ والكتب والأرشيف مجرد اهتمام أكاديمي، بل كان مقاومة هادئة لإفراغ الذاكرة من معناها، وسعيًا دائمًا لإنقاذ الرواية اللبنانية من تشويه التأويل وإسقاطات الحاضر.

 

مع تخرّجي، تطوّرت العلاقة لتأخذ بُعدًا مؤسساتيًا، مع إطلاقه عام 2008 مركز فينيكس للدراسات اللبنانية، الذي سرعان ما أصبح أحد أبرز المشاريع التوثيقية في لبنان المعاصر. وقد انطلق من هدف واضح: جمع الأرشيف اللبناني، السياسي وغير السياسي، من مصادره العالمية والمحلية، بهدف بناء ذاكرة وطنية علمية ومؤرشفة. بدأنا من أرشيف عائلة الرئيس بشير الجميّل، ثم توسّع المشروع ليشمل أرشيفات رؤساء وقادة لبنانيين أمثال كميل شمعون، فؤاد شهاب، والياس سركيس، بالإضافة إلى شخصيات فكرية ومجتمعية مؤثرة. واللائحة لا تنتهي. حتى الأرشيف العثماني لم يشكّل عائقًا، بل كان الوصول إليه ميسرًا بفضل وضوح الرسالة ونبل الغاية. لم يكن الهدف مجرد حفظ الوثائق، بل تأطيرها ضمن قراءة علمية وتاريخية، تنأى عن التوظيف السياسي الظرفي.

 

وفي عام 2018، أُطلق مشروع التاريخ الشفهي لحرب لبنان، وهو من أضخم مشاريع التوثيق في البلاد. جمع أكثر من 1000 ساعة من الشهادات الحية مع مناضلين وفاعلين سياسيين وعسكريين واجتماعيين، بهدف حفظ الذاكرة كمادة للتفكّر والمراجعة، لا أداة للتجييش أو التبرير، مع التزام صارم بالموضوعية والمنهجية.

 

لم يكن مكتب الأب مكرزل في مكتبة جامعة الروح القدس الكسليك مجرّد مساحة إدارية. لقد تحوّل إلى منبر فكري وطني استقبل على مدى سنوات أكاديميين، سياسيين، ناشطين، ودبلوماسيين من لبنان والخارج، فشكّل فضاءً نادرًا للنقاش الجاد حول الهوية والمستقبل. لقد جمع في أروقته باحثين ومفكرين وصناع قرار من خلفيات متعددة، متجاوزًا الانتماءات والطوائف، ليصبح نموذجًا مصغّرًا عن لبنان الممكن: لبنان الحوار، والمؤسسات، والذاكرة المستندة إلى الوقائع لا الأوهام.

 

 

الأب الدكتور جوزيف مكرزل راهب أكاديمي يجمع بين الرسالة الكهنوتية والالتزام الفكري، وأعاد للمؤسسة الثقافية معناها الحقيقي كدعامة في البنية الوطنية. وقد أدّى رسالته كرجل من رهبان بيت مارون، أبناء النور والشهادة للنور، حتى الاستشهاد إن لزم الأمر، لا بالسلاح، بل بالكلمة؛ لا بالعنف، بل بالمعرفة؛ لا بالصراخ، بل بالفعل الهادئ والمستمر وليس من المبالغة القول إن الأب مكرزل كان، في هذه المسيرة، المعلّم، الحافظ، والصديق.

 

لقد أنجز الأب مكرزل كل ذلك بصمت الراهب وتفاني المؤمن، في عالم يغلب عليه الضجيج وتغيب فيه ثقافة التقدير. لم يسعَ إلى موقع إعلامي، ولم يلهث خلف النفوذ، بل اختار أن يصنع الأثر بهدوء، ويبني مؤسسة تحفظ ذاكرة الوطن بإتقان وصبر.

 

في بيئة غالبًا ما تُهمّش الفكر العميق لصالح الحضور الصاخب، جسّد الأب مكرزل نقيض هذا النمط. آمن بأن العمل الوطني الحقيقي يُقاس بالاستمرارية لا بالظهور، وبالمنجز لا بالصورة. وحتى حين غاب التقدير، بقي حاضرًا برسالته وإيمانه، إلى أن أصبحت المكتبة، ومركز فينيكس، ومشغلو الرقمنة وحفظ وترميم المخطوطات مرجعًا وطنيًا لا يُمكن تجاهله، ومكتبه ملاذًا للعقل في زمن الانفعال.

 

واليوم، وقد تولّى الأب الدكتور جوزيف مكرزل رئاسة جامعة الروح القدس – الكسليك، يدخل هذا الموقع الأكاديمي الوطني التاريخي الرفيع بالمقومات ذاتها: العمل بصمت، القيادة بتواضع، وخدمة المعرفة من دون ضجيج. وفي هذا المسار، تتوفّر دروس لا تُدوَّن في المقالات، بل تُترَك أثرًا في مسيرة وطن وضمير أمة.