Site icon IMLebanon

بين نماذج الفدرالية واللامركزية الموسّعة: بعبع أم خلاص؟

 

قراءة في طرح تعديل التركيبة ضمن الـ 10452 كلم2

 

 

كلام كثير تضج به المجالس والأروقة والمنتديات حول ما يتردد بشكل مضطرد من توجهات ورغبات لتغيير الصيغة الراهنة، أو تعديل التركيبة القائمة بما تعنيه نظامًا وتوازنات وتوزيعًا للسلطة، وهذا الكلام يشي بتكوُّن قناعة لدى شريحة واسعة من اللبنانيين ولدى شريحة غالبة من المسيحيين بضرورة الوصول إلى تطوير تركيبة النظام بما يمنع هيمنة طائفة أو فئة على أخرى، ويتيح لكل مكوّن أن يعيش خصوصياته وتمايزه وأن يُعنى بشؤونه المحلية على اختلافها بما يطمئنه إلى حاضره ومستقبله، ويجعل الانتظام العام ضمن ضوابط لا تتأثر بالتغيرات الديموغرافية والحسابات الإقليمية والدولية وما تعنيه من تدخلات ومحاور وجبهات تتخطى الحدود اللبنانية.

 

ومن هنا، يمكن فهم ما يُطرح في السوق السياسي من أفكار ومشاريع ترتبط بالتغيير المنشود سواء اندرجت تحت عنوان اللامركزية الموسعة أو تحت عنوان الفدرالية، علمًا أن من يكتفي بطرح اللامركزية الموسعة، يعتبر أنها ينبغي ألا تقتصر على الجانب الإداري الصرف، بل لا بد أن تشمل الجانب المالي، فضلًا عن جوانب سياسية وأمنية ولو اتخذت طابعًا جزئيًا.

 

وعنوان اللامركزية الموسعة من خلال هذا التفسير، يجعل منها أقرب إلى فدرالية نسبية، وهو ما يجنح إليه معظم القوى السياسية التي تؤمن بهذا الخيار، مع الحرص على التمسك بلبنان وطنًا واحدًا موحدًا ضمن حدوده المعترف بها دوليًا وعلى مساحة الـ 10452 كلم2، باعتبار أن لا أحد يريد التقسيم والانفصال، ولا أحد يرغب في نعي لبنان الشراكة والصيغة الفريدة، وتاليًا فإن ما يتم طرحه هو لحماية الشراكة والصيغة، والحفاظ على لبنان النموذج الفريد.

 

هذه النظرة هي التي ألمح إليها رئيس حزب “القوات اللبنانية” في خطابه الأخير لمناسبة انعقاد المؤتمر العام الأول للحزب، إذ تحدث عن التصميم وبمجرد أن تسمح الظروف، على طرح إعادة النظر بتركيبة الدولة الحالية تطلعًا للأفضل، ولكن كل ذلك ضمن حدود لبنان المعترف بها دوليًا، وضمن الـ 10452كلم2 . على أن هذا الطرح، وكما يقول جعجع لزواره وفي مجالسه، “ليس مسألة كوني فكانت، ولأن التعاطي معه كخيار يحتاج إلى حوار وتوافق وطني بين جميع المكونات اللبنانية”، من خلال كونه يُكرّس التنوع في الوحدة، لا سيما وأن تجربة الجمهورية منذ ولادة لبنان الكبير وحتى اليوم لم تكن مشجعة كثيرًا، فكم بالحري في ضوء الواقع الراهن والذي جعل من لبنان برمته رهينة محور الممانعة، وألغى بنسبة كبيرة واقع الشراكة الفعلية لمصلحة الهيمنة الأحادية، ولذا، ينبغي لكل مكون لبناني أن ينكب على التفكير بهذا الخيار بواقعية وبخلفية وطنية في الوقت عينه، بما يكرس الشراكة المدروسة والتي تلتزم هوامش ثابتة وتجعل من الجميع في حالة استقرار واطمئان حيال المستقبل.

 

ولكن لا يمكن البحث عمليًا في تطوير تركيبة الدولة إلا بعد الخلاص من مسألة سلاح “حزب الله”، وإنجاز قرار حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، كي يمكن الانصراف إلى البحث الهادئ من دون أي عوامل ضاغطة. ومن هنا، لا بد من طرح السؤال التالي: ألسنا كلبنانيين اليوم أمام واقع فدرالي مقنع على مستوى السلطة والقدرة على اللجوء إلى الفيتو الاعتراضي وصولًا إلى التعطيل، وكيف يمكن وصف المشهد الراهن للوطن اللبناني إلا بأنه أشبه بفدرالية بحكم الأمر الواقع، من خلال هيمنة “الحزب” على مناطق معينة وفرض أجندته وقوانينه وشبكاته الأمنية والمالية والاقتصادية؟

 

في أي حال، مسألة اللامركزية الموسعة ببعدها المالي والسياسي والأمني محليًّا، والتي تقارب الفدرالية في بعض الجوانب، تقع في المسافة الوسطى بين اتفاق الطائف وبين الطموح اإلى إعادة نظر جدية بالتركيبة تحت سقف الوطن الواحد. على أن ليس من دولة صديقة للبنان ولا سيما من الدول الكبرى والنافذة لديها تحفظات على طرح اللامركزية الموسعة وحتى الفدرالية، وهذا ما يلمسه بعض القيادات من زاو كبار أو من دبلومسيين معتمدين في لبنان، بل إن معظم هؤلاء يرى أن الفدرالية أو اللامركزية الموسعة ببعد سياسي معيّن هي أمر طبيعي جدًا، خصوصًا أن أبرز الدول المتقدمة في العالم، تعتمد النظام الفدرالي أو ما يشبهه ويقترب منه، ولن يبقى في رأيهم إلا كيفية التفاهم على هذا الأمر بين اللبنانيين أنفسهم.

 

ومعروف أن بعضًا من أهم الدول الأوروبية، يعتمد الفدرالية كألمانيا وروسيا وإسبانيا وبلجيكا وسويسرا والنمسا، علمًا أن بريطانيا تعتمد الفدرالية غير المعلنه من خلال تجيير الكثير من الصلاحيات المركزية لسلطات اسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية، حتى فرنسا الدولة الوحدوية بشدة، وجدت صيغة لتكريس خصوصيات بعض المناطق المتمايزة ثقافيًا عبر منحها قدرة التصرف ببعض الشؤون المحلية كما في كورسيكا والألزاس واللورين وبعض أقاليم ما وراء البحار.

 

والقارة الأميركية أبرز الدول فيها تعتمد عمليًا الفدرالية على غرار الولايات المتحدة وكندا والمكسيك والبرازيل والأرجنتين، وفي آسيا النظام الفدرالي معتمد في باكستان وفي الهند بنسبة كبيرة كما ماليزيا.

 

أما في أفريقيا، فإن النظام الفدرالي راسخ في نيجيريا أكبر دول القارة السوداء سكانًا، كما في جمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وبنسبة معينة في جنوب أفريقيا.

 

أما في دنيا العرب، فالفدرالية قائمة في دولة الإمارات العربية المتحدة، بينما تبرز مساع في السودان لإعادة العمل بالمرسوم الدستوري الصادر مطلع الألفية والذي يطرح النظام الفدرالي اللامركزي. كما أن ليبيا تشهد جدلًا حول استعادة الصيغة الاتحادية كما كانت خلال النظام الملكي. وفي العراق الفدرالية قائمة عمليًا وتشمل العلاقة بين الدولة المركزية وإقليم كردستان، فيما تتردد طروحات حول صيغ معينة لسوريا الجديدة.

 

وفي الخلاصة اللامركزية الإدارية الموسعة كما الفدرالية والاتحادية هما من الخيارات المعقولة للمرحلة المقبلة بما يقطع الطريق على أي نزعة انفصالية ويعيد إنتاج الشراكة الوطنية بقالب جديد وقابل للعيش والتطور.