Site icon IMLebanon

عن استقلال لبنان.. الكيان «المعطوب» بالولادة

تأخّر اللبنانيّون 72 سنة ليكتشفوا الاستقلال كما قُدّم إليهم، وكأنه جزء من الفولكلور الشعبي، شأنه شأن الدبكة والميجانا والعتابا. ذلك أن الاستقلال الذي دُفع ثمنه دمًا، لا يُختصر باستقبال رئيس الجمهورية للمهنئين بالمناسبة في قصره، ولا بعرض عسكري في جادة رئيسية في البلاد، لأنه أعمق من ذلك وأبهى. ولعل أصدق صورة له هي طائر يُحلّق عاليًا فوق أرض يغلب فيها اللون الأحمر، لون الدم، ما عداه من ألوان الطبيعة الخلاّبة.

والشعور بالمرارة الذي ينتاب اللبنانيين اليوم بعد 72 سنة على نيلهم الاستقلال، و69 سنة على خروج آخر جندي أجنبي من أراضيه، هو شعورهم بأنهم غير مستقلين. بمعنى أن إرادتهم ليست حرّة، وأن هناك من رهن الاستقلال وقيّد الإرادة الوطنية بسلاسل الطائفية والمذهبية، وأحلّ التبعية للخارج في القرار الوطني مكان السيادة. وإذا لم تعُد هناك حاجة، بعد الجلاء، ليرابط جيش أجنبي فوق أرض الوطن، فإن ثمة «ريموت كونترول» خارجيًا بات يوجه القرارات والسياسات العامة.

«رسالة استقلالية»

وقد أوحت إليّ هذه الصورة فكرة لقاء افتراضي مُتخيّل في مكانٍ ما من العالم الآخر، بين رجال الاستقلال وشهدائه السبعة عشر، ولا سيما «المجهولين» بينهم، الذين سقطوا برصاص الجنود السنغاليين في الجيش الفرنسي الذين قيل للبنانيين إنهم جاؤوا «لتأديبهم ولتهذيبهم وتمدينهم».

وإذ افترضتُ أن أخبار الأزمات السياسية وآخرها أزمة «النفايات الطائفية والمذهبية» التي عطّلت المؤسّسات التي نشأت عن الاستقلال قد بلغت المشاركين في اللقاء، فإن هؤلاء لم يجدوا أفضل من رسالة مشتركة يوجّهها ثلاثة من «آباء الاستقلال» إلى زعماء «المزرعة الاستقلالية» واسطبلاتها وزرائبها المختلفة، الذين يتحاربون منذ العام 1943 على كل شيء بما فيه روث الأبقار!

فكانت هذه الرسالة الصوتية المشتركة التي بُثــت عبر الإنترنت، وقد اعتمدتُ فيها التسلسل التاريخي بادئًا بالبطريرك الياس الحويّك.

الحويّك

قال الحويّك:

«ماذا فعلتم بالوطن؟ بالأرض؟ وبالشعب؟ لقد غامرت بنفسي، برغم اعتلال صحتي وسنواتي الست والسبعين، وركبت الفرقاطة الفرنسية من مرفأ جونيه في 15 تموز 1919، متوجّهًا إلى مؤتمر السلام في باريس، مفوَّضًا خطيًا من ممثلي العائلات الروحية المسيحية والإسلامية، وقد سلّمت التفويضات إلى وزير الخارجية الفرنسي فور وصولي إلى باريس في 22 آب. وطالبت الدول المنتصرة في الحرب، بالاعتراف باستقلال لبنان الذي أعلنه الشعب والحكومة اللبنانيان في 20 أيار 1919. وكان توجّهي إلى باريس في تموز من أجل تنفيذ هذا الإعلان. كما طالبت بإعادة لبنان إلى حدوده التاريخية الطبيعية، وإعادة المناطق التي سلختها تركيا عنه بموجب نظام المتصرفية. ودعوت إلى معاقبة المسؤولين الألمان والعثمانيين عن الفظائع التي ارتُكبت في حق شعبي وقضى ثلثه بالمجاعة والتجنيد الإجباري والنفي في «سفر برلك»، كما طالبت بتعويض المتضرّرين. وفي 25 تشرين الأول وزعت على المجتمعين مذكرة تشرح أسس المطالبة باستقلال لبنان، وخصوصًا الأسس الحقوقية والتاريخية والثقافية. وكان الاعلان الأول لاستقلال لبنان صدر عن البرلمان الفرنسي في 27 كانون الأول 1914.

وقد ناشدت في نهاية المذكرة فرنسا التي ستنتدب على لبنان، «كمستشار وصديق، لتحضيره لممارسة السيادة، ولتنمية الشعور الوطني الآيل إلى إمساك اللبنانيين، بآليات التنظيم الإداري والقضائي لبلدهم» ـ ناشدتها العمل على تعزيز الوحدة الوطنية بين اللبنانيين على اختلاف طوائفهم، ومساعدة اللبنانيين على احترام الحريات، والتمثيل النسبي في السلطة والمجالس المختصة، وحماية حقوق الأقليات.

واليوم، أود أن أسألكم عن مصير الأرض التي استرجعناها لكم، وربطنا بينها وبين الحرية، معتزين بأصلنا الآرامي العربي؟ ماذا فعلتم بها؟ وهل لا تزال مرقد عنزتكم، ومصدر عيشكم، ومدفن موتاكم كما كانت سابقًا؟ إن عتبي عليكم لَكبير لأنكم فصلتم بين الأرض والحرية، وتنازلتم عن الهوية العربية الأصيلة، وأحللتم الجنسية الأجنبية مكانها، وحوّلتم مجتمعكم إلى شبه آلة تفقيس الصيصان، وهمتم على وجوهكم في العالم، غرباء.

فأنتم اليوم، وأعني بكلامي هنا المسيحيين، مثل لوح ثلج يذوب من دون أن يحرّك أحد ساكنًا، وخصوصًا الكنيسة التي لديَّ عتب كبير عليها، لأنّها لم تُدخل ثقافة الولاء للأرض والتمسّك بها في الأنجيل، ولم تجعلها عظة ملزمة في القداديس، هذه الأرض المقدّسة التي وطأتها قدَمَا السيد المسيح في صور وصيدا وقانا، واستُشهد من أجلها رجال دين كبار أعزهم إلى قلبي البطريرك جبرائيل حجولا الذي أحرقه المماليك في ساحة التل في طرابلس أواخر القرن الثالث عشر، لأنه رفض الاستسلام لمشيئتهم.

شيحا

بدوره يسألنا اليوم ميشال شيحا، محرّر الدستور: ماذا فعلتم بلبنان، بل بلبناني؟ فلطالما كان لبنان ملاذًا للهاربين من الظلم والاضطهاد في العالم العربي، المسلمين قبل المسيحيين، الشيعة، والإسماعيليين والنصيريين والدروز والأرمن والأشوريين والكلدان والعلويين وحتى اليهود الخ…، فتحوّل مع الوقت بلد الأقليات المتشاركة.

وموضوع الشراكة مهم وقديم في بلد مثل لبنان غير متجانس في تركيبته المجتمعية يجد وحدته في مجلس تمثيلي شئته لكم في الدستور، الذي سطّرته بخط يدي، مكانًا للتلاقي والوحدة للجماعات المكونة للبنان، من أجل الإشراف المشترك على الحياة السياسية للأمة.

وقد حذّرتكم من خطر التلاعب بالتمثيل لاعتبارات طائفية ومذهبية خصوصًا، لينتقل النقاش حينئذ إلى الملاذات الطائفية والمذهبية أو إلى ما هو ظلها، مما يؤخر التطور المدني للمجتمع. كما أن إضعاف هذا المجلس يؤدي إلى الاستسلام أمام الضغوط الخارجية، ويدفع اللبنانيين تاليًا إلى الهجرة، المعول الذي يدمر لبنان.

وكنت أوصيتكم بأن المشاركة تفترض التوازن الوطني، وأن أي تسوية ينبغي أن تأخذ بهذا الاعتبار. فنحن محكومون بقوانين التوازن أكثر من ميولنا الديموقراطية.

كما لفتّكم إلى أن مسيرة المحافظة على التوازن وتقليل التمايزات بين اللبنانيين تحتاج إلى وقت، وهو ثمين وينبغي عدم اضاعته، بل تجب مساعدته لأنه أساسي في تكوّن الشعب وفي ديمومة الوطن. كما صحت للاعبي الشطرنج بينكم، بألا يقلبوا الرقعة، بل يحاولون تحريك البيادق ببطء، وإدارة بيدق البرج وليس الحصان أو المجنون.

وأذكّركم بفكرة العيش المشترك التي سمعتموها مني للمرة الأولى، وقاعدتها أنه يستحيل التقريب بين عناصر كثيرة غير متجانسة وتوحيدها من دون منحها الفرصة، أي الوقت، لأن تعيش معًا، سياسيًا، وأن تتاح لها الفرصة لأن تشارك في التشريع داخل المجلس التمثيلي، وأن تراقب تنفيذ هذه القوانين، وقطع الطريق على الفاسدين والمفسدين أصحاب المصالح الفئوية والنفوذ المتعدد الوجه الذين يسعون إلى تفصيل القوانين على قياسات شهواتهم وأطماعهم.

وكنت حذّرتكم من الخطر الذي يمثّله وجود دولة صهيونية في المنطقة، إذ «إضافة إلى الأخطار المعروفة، هناك خطر قيام دولة إسرائيل على حدود الوطن. وهذه تشكّل خطرًا عليه، إذ لا تأتي منها الموسيقى الرائعة فحسب، كما يتخيل البعض، بل كذلك محاولة الهيمنة تساعدها على ذلك مجموعة المثقفين الأكثر براعة، ووسائل الاختراق والتوغل الأكثر قوة وتنوعًا».

ولا أدعي أني كنت أتنبأ في موضوع اسرائيل، إذ بعد سنتين على قيامها كتبت في 6 تشرين الثاني 1950 انه «سواء تطورت اسرائيل دون عقبات جديدة في اتجاه تحقيق طموحاتها، أو واجهت حياة أكثر صعوبة، فعلينا نحن اللبنانيين أن نجبه أخطارًا ذات طبيعة متنوعة. ولكن مهما فعلنا فإننا لن نعرف الراحة، الراحة الدائمة على الأقل. وهذا ما تنبغي مصارحة اللبنانيين به بشجاعة، لأن هذه هي الحقيقة».

إن أسفي عليكم لكبير، في موضوع اسرائيل، لأنكم لم تأخذوا كلامي محمل الجد، إذ بعدما اجتاحت أراضيكم في الجنوب العام 1978، قام بينكم من استدرجها إلى اجتياح ثانٍ العام 1982، ولولا المقاومة الباسلة وشهدائها الأبطال لما اضطرت قوات الاحتلال إلى الانسحاب ذليلة في أيار 2000، عن معظم الأراضي التي كانت محتلة في الجنوب والبقاع الغربي، وما بقي منها محتلاً في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا ستتكفّل به المقاومة، وقد باتت هذه رقمًا صعبًا وقوة تثير الرعب في نفوس الإسرائيليين، وخصوصًا بعد هزيمتهم في حرب تموز 2006 والملاحم البطولية التي سطّرها المقاومون في وادي الحجير وسواه.

رياض الصلح

وعندما وصل الدور إلى رياض الصلح بدا متجهّمًا وشبه يائس، لفرط تأثّره بما آل إليه الاستقلال. قال رياض: أنا خائب من الطبقة التي حكمت البلاد، باسم الاستقلال، واستغلته ونشرت الفساد في كل مفاصل المجتمع اللبناني. خائب إلى درجة الندم، وخصوصًا أني غامرت بمستقبلي السياسي عندما انخرطت في مشروع الاستقلال، أنا الوحدوي المكافح من أجل وحدة الأمة العربية. وقد اتهمني رفاقي في النضال بـ «القطرية» لأنني انضممت إلى نسيبي كاظم الصلح الذي وقف في وجه الشخصيات الإسلامية التي عقدت ما عُرف بـ «مؤتمر الساحل» في منزل سليم بك سلام في 15 آذار 1936 ورفضت فكرة لبنان المستقل، مؤكدة تمسّك المجتمعين بالوحدة مع سوريا.

وقد وافقت كاظم رئيس «حزب النداء القومي»، في الكتاب الذي أصدره في السنة التالية بعنوان «الاتصال والانفصال»، ودعا فيه إلى العمل من أجل استقلال لبنان الذي اعتبر أنه «لا يتنافى مع الدعوة إلى الوحدة العربية»، نظرًا إلى أن العروبة، بالنسبة إليه، هي «شأن سياسي وليس مسألة عقائدية». وقد تضمن الكتاب اشارة، للمرة الأولى، إلى ما دُعي بـ «الميثاق الوطني» والذي جعلته «خريطة طريق» نحو الاستقلال وترجمته في بيان حكومة الاستقلال الأولى التي ترأستها، وتلوته في جلسة 8 تشرين الأول 1943.

ولقد أثار انخراطي في المشروع الاستقلالي ضجة في أوساط الوحدويين، واتُهمت بالتنكر للمبادئ التي ناضلنا من أجلها، في مواجهة السلطنة العثمانية، الأمر الذي اضطرني لزيارة دمشق وشرح مبررات سلوكي الاستقلالي من أحد منابرها معلنًا «أن لبنان بلد عربي، لا يريد بعد اليوم أن يكون للاستعمار مقرًا، ولا يريد أن يكون للاستعمار إلى البلاد العربية ممرًا».

أما لماذا شاركت في الانتخابات، وأنا الوحدوي، فجوابي أني قبل الدخول في المعركة استشرت اخواني في الجهاد، وقلت لهم إن لبنان يسير على غير الطريق الذي نريده. يسير المسلم في طريق، والمسيحي في طريق آخر، وهما لن يجتمعا، وعلينا أن نجمعهما تحت راية الاستقلال. وهذا عمل مبارك. والآن حان أوان تذكيركم، يا أهلنا، بـ «خريطة الطريق» التي أعلنتها في البيان الوزاري لحكومة الاستقلال الأولى وفيها:

ـ تنظيم الاستقلال.

ـ اجراء إصلاحات، ووضع دستور دولة مستقلة.

ـ محاسبة من يفرّط بالاستقلال.

ـ معالجة الطائفية لأنها تقيّد التقدم الوطني، والساعة التي يمكن إلغاء الطائفية هي ساعة يقظة وطنية شاملة ومباركة في تاريخ لبنان لأن بقاءها يجعل الوطن أوطانًا.

واني لأسألكم اليوم: أين نحن من هذه الخريطة، وقد خربطتم كل الخرائط ونشرتم الانقسامات وعممتم الفساد؟ وما أراه اليوم هو ان لا تنظيم للاستقلال بل تعهير له واستغلال. ولا اصلاح، إلى جانب دستور طائفي أتاح لطائفة معينة، وان تكن طائفتي، الاستئثار بالسلطة. فيما اللبنانيون منقسمون أفقيًا وعموديًا، وهذا لم تعرفه ايامنا، يضاف إليه غياب التمثيل الحقيقي للشعب في مجلس النواب، وانعدام المساواة داخل المناصفة، وتزايد اعداد الفقراء وتراجع الإنتاج، وتعاظم حجم الدَّين العام بالنسبة إلى الدخل الوطني، واختفاء الطبقة المتوسطة التي هي عادة عماد النظام الديموقراطي، وتفاقم موجات الهجرة، وخصوصًا بين الشباب، واستمرار الاحتلال الاسرائيلي لأجزاء من الوطن، إلى جانب نهب اسرائيل لمياه لبنان وتهديدها ثروته الوطنية النفطية والغازية، وإجهاض ما سُمّي «ثورة الأرز» التي كان مؤملاً أن تحقق الاستقلال الفعلي، وخصوصًا عن سوريا، وتعرّضها للخطف من طرف طائفي تابع لدولة اقليمية.

لقد صدق السياسي الكبير فؤاد بطرس الذي قال فيكم انكم مجموعة حصى ورمل ألقيت فوق أرض لم يجد أهلها، إلى الآن، المادة اللاحمة التي تجمع المادتين وتقويهما ليستطيعا بهما تشييد بناء قوي يصمد في وجه العواصف والأعاصير والهزات، فضلاً عن الخلاف على نسبة الحصى والرمل في الخلطة الواحدة، إذ كل طرف يريد أن تكون نسبته هي الأعلى، وإن أدّى ذلك إلى انهيار البناء!