حسناً، ها هي الهدنة السورية، أو وقف العمليات العدائية فيها، قد صمدت إلى حد كبير، وها هي مفاوضات جنيف تنطلق، على رغم بعض التأخير والكثير من التباعد بين طرفيها، ولعلّ الأهم من كل ذلك الآن هو قرار الرئيس بوتين بسحب جزء كبير من قواته في سوريا، فلمَ لا تتفاءلون إذاً أيها السوريون؟ لماذا أنتم خائفون ويبقى التشاؤم سيد الموقف عندكم؟.
في الواقع، تتصاعد المؤشرات الجدّية التي تدلّ على وجود تفاهم روسي ـ أميركي، (قد تكون خطوطه العريضة وملامحه العامة جرى تحديدها والاتفاق بشأنها سلفاً)، لتغليب المسار السياسي، ومقاربة حلول تسووية للصراع الدائر، والشروع في مفاوضات سورية ـ سورية، يفترض بها أن تفضي إلى تأسيس عملية سياسية تنجز البنود العامة والاستحقاقات المنصوص عليها في «الأجندة« الأميركية ـ الروسية المشتركة.
لكن، واستناداً إلى المرّات السابقة التي تمّ فيها إجهاض كل المحاولات الرامية إلى إيجاد صيغة سياسية للخروج من الاستعصاء الحاصل في هذه الأزمة، نجد أنّ لدى السوريين ما يكفي من الأسباب الداعية إلى القلق والوجل والتشاؤم، وخصوصاً أن البون ما زال شاسعاً بين ما يتسرّب من قرارات وتفاهمات «نظرية«، جرى أو يجري طبخها على موائد العواصم الكبرى، أو في دهاليز السياسة والمحافل الدولية، وبين ما يحصل على أرض الواقع!. ناهيكم عن استمرار أوهام الحسم العسكري لدى الأطراف الأكثر فاعلية في هذا الصراع، والتي ما زالت تأمل بقدرتها وإمكانيتها على محق الطرف الآخر، والقضاء عليه عسكرياً وسياسياً، وربما حتى وجودياً؟!.
يبرز في هذا الصدد، على وجه الخصوص، إصرار نظام دمشق على إجراء انتخابات نيابية في الشهر القادم، على رغم تعارضها جبهياً مع الأجندة المنبثقة عن «مسار فيينا« للحل السياسي. إضافة إلى رفض وزير الخارجية السوري حديث المبعوث الأممي دي ميستورا، «أو غيره كائناً من كان«، عن إجراء انتخابات رئاسية في سوريا، واعتباره أن «مقام الرئاسة خط أحمر«!، وبأنها «ملك حصري للشعب السوري«!!، وهو ما دفع وزير الخارجية الأميركي إلى رفض هذه التصريحات، معتبراً أنها «تتناقض مع تعهدات روسية وإيرانية«، في هذا الشأن. هذا فضلاً عن تعريف المعلم للمرحلة الانتقالية بأنها «الانتقال من دستور قائم إلى دستور جديد، ومن حكومة قائمة إلى حكومة فيها مشاركة..«، وذلك حسب الفهم الحكومي الرسمي!.
قد يتساءل كثيرون هنا عن قيمة الحديث عن «خطوط حمر« لهذا المقام أو ذاك من المناصب ومواقع المسؤولية السورية، في وقت سقطت فيه كل الخطوط الحمر المتصلة بالدولة والسيادة السورية، فضلاً عن هذا الخراب المعمّم، ووجود ملايين السوريين المشرّدين في شتى أصقاع الأرض، هذا في حال اتفقنا طبعاً على مفهوم لـ«السيادة» يختلف عن الفهم «الرسمي«، الذي درج على حصرها بالقدرة المطلقة على استمرار وجود «البوط العسكري المقدّس«، الذي تقام له التماثيل، فوق رقاب السوريين جميعاً!!.
والحال، فمثلها مثل الهدنة القائمة، يكاد يتفق الجميع على هشاشة المفاوضات الجارية، وعلى أن ما هو معلن، وما يُتداول في إطارها، لا يتعدى كونه «إعلان نوايا«، يجازف بالمراهنة على «خريطة طريق مبهمة ومعقّدة وشاقة للغاية في التنفيذ«، هذا إذا امتلك أصلاً ما يكفي من الإرادة السياسية لدى القوى والعواصم المعنية، والآليات المساعدة على ترجمته وتطبيقه على الأرض.
وإذا كان لقرار الانسحاب الروسي أن يحمل شيئاً جديداً ومأمولاً على هذا الصعيد، فلعلّه يكمن في احتمال الضغط على الأسد ودفعه إلى الانخراط الجدي والايجابي في مفاوضات جنيف، وعدم الاستمرار، كدأبه المعتاد، في التهرّب من الاستحقاقات المطلوبة، أملاً في أن تفضي هذه المفاوضات إلى قيام هيئة الحكم الانتقالية المنتظرة، وإجراء انتخابات رئاسية بعد وضع الدستور الجديد.
وبعيداً عن التكهنات بشأن الخلفيات والأسباب التي أدت إلى هذا الانسحاب، فإنه يبدو حتى الآن أشبه بضربة موفقة يمكن أن تعود بالكثير من المكاسب على العاصمة الروسية وعلى الرئيس بوتين شخصياً، خصوصا أن الأخير حرص على ربط هذه الخطوة بتكثيف الجهد الديبلوماسي لإنجاح العملية السياسية.
وأغلب الظنّ أن التوافق الروسي – السوري بشأن العملية السياسية الموعودة، وأهدافها وأثمانها المحتملة، قد وصل إلى مرحلة حرجة، لم يُظهر فيها النظام السوري المرونة الكافية، أو المطلوبة روسياً، للانخراط الجدي فيها. وإذا صحّ ذلك، فيمكن القول إنه هنا بالضبط يكمن الفارق بين السلوك الروسي ونظيره الأميركي.
فالرئيس بوتين يدرك أن الديبلوماسية لا تتعلق فقط بحملة علاقات عامة، أو بعملية حجاج منطقي وعقلي لإقناع الطرف الآخر بضرورة فعل كذا وكذا!، بل بموازين قوى ومعطيات ملموسة قائمة على الأرض. وعلى ذلك، أرسل طائراته وجنوده إلى الأراضي السورية لتحقيق أهداف بعينها في البداية، ثم عاد وسحب جزءاً منها لتحقيق هدف سياسي آخر، أو موازٍ. أما إدارة أوباما فبدت، عموماً، وكأنه ليس بوسعها سوى ممارسة الضغط على أطراف المعارضة السورية وحدها، إضافة إلى الأطراف الإقليمية الداعمة لها، للقبول بتقديم المزيد من التنازلات، وصولاً إلى ما يشبه إعلان استسلامها التام أمام «عاصفة السوخوي« الروسية. وفي المقابل، فإنها لم تقم بأي ضغط جدي على النظام، أو على حلفائه، لتقديم تنازل واضح ومحدد!.
وبالعودة إلى «الخط الأحمر« الخاص بالرئاسة السورية، يجدر التذكير أن الأزمة السورية شهدت بروز العديد من «الخطوط الحمر«، لكنها تساقطت جميعاً أمام التطورات التي لحقت وعصفت بها، فهل سيختلف، يا تُرى، خط «المعلم« الأخير عمّا تساقط من قبله؟!.
() كاتب من سوريا