Site icon IMLebanon

الخروج من القاع

 

منذ أول المئوية الأولى ونحن ندخل أنفسنا بأنفسنا إلى القيعان، ننقلب على مفهوم الدولة بإرادتنا، ندخل إليها مثل لصوص الليل، ونسرقها، نعتدي على أملاكها، نحتال على قوانينها، نستعين بالقوى الخارجية عليها، ننظر إليها نظرة إزدراء بأنها «دولة مسخ»، وأننا نحن أعظم منها، فهي لا تليق بنا، ولا تلبّي طموحاتنا. ولهذا، نطلع كل يوم عليها بحزب، وننقلب عليها كل يوم بإنقلاب وثورة.

ظللنا مائة عام على مكرنا بها، نعمل بكل ما أوتينا بقوة لإنهاكها وإفسادها وجعلها تتساقط أمامنا، بعد أن نفرغها من معناها لتصبح في غاية الهشاشة.

 

كنا نعتبر أن دولة الإنتداب لا تليق بنا، فنحن شعب الرجولة والقبضنة والعشيرة، ولنا ملء الحق والحرية لنطالب بإستقلالنا. فصرنا نبحث عمن ينصرنا على دولتنا، فإنفتح أمامنا «باب العمالة» على مصراعيه. وصارت أموال الأجهزة الخارجية كلها في خدمتنا. صارت لنا حسابات في البنوك. وصرنا قادة على الدولة، وصرنا زعماء على الدولة. وصارت الإدارة محاصصة، وصارت المناصب محاصصة، وعمّت فكرت المحاصصة، كل أجهزة وإدارات وهيئات ومراكز الدولة.

طيلة مئة عام وأكثر، ونحن نوسّع للقوى الأجنبية بيننا. تحتل من خلالنا الدولة، قبل أن تأتي وتحتل أرضنا. ويوما بعد يوم، صار للأشقاء وللأشقياء مونة علينا. فقد وضعوا في جيوبنا أرصدة لا سبيل لنا بإيفائها، إلّا من خلال تسليم شطائر الدولة. ومنذ ذلك التاريخ البعيد، بدأ تقطيع أوصال الدولة وتشطيرها وفرزها، حتى يسهل علينا بيعها بالقطعة.

صرنا نبيع الحدود، وصرنا نبيع السيادة، وصرنا نبيع الأرض. نسلّم الجبال والوديان والمغاور والكهوف، نسلّم البحر والنهر والسهول بإرادتنا. نتواطأ مع قوى الخارج على بعضنا، فقوي الخارج فينا. وصرنا نغرق يوما بعد يوم في القيعان، ويطفو أهل الخارج على سطحنا، يسهرون ويفرحون ويمرحون، ثم لم يلبثوا أن حملوا السلاح علينا، بحجة الدفاع عن أمننا، بحجة الدفاع عن كرامتنا، وأيضا بحجة الدفاع عن الكيان والوطنية والعروبة والقومية، بحجة الدفاع عن ديننا ومقدّساتنا.

كشفت الحرب الأخيرة منذ إنفجار المرفأ في الرابع من آب 2020، مدى القاع الذي غرق فيه اللبنانيون. وعلت الصرخة، ثم توالت علينا الحرب بضرباتها القوية، وكشفتنا وعرّتنا وجعلتنا نخرج من ثيابنا، فإحترق الجنوب كورقة إشتعلت من جميع أطرافها، واحترقت معه الضاحية، وصرنا إلى الشتات والجفاف والعراء، حتى باتت الدولة بلا دولة.

الخروج من القاع، صار اليوم مطلبنا جميعا، ومشروعه يبدأ من ورطة العمالة مع الخارج، كل أهل الخارج بلا إستثناء، ويجب أن نعي مسؤوليتنا عما قمنا به، ونتراجع عن الضلال والعماء، ونسلّم بالدولة أولا، أنها الحامي الأول والأخير، وأنه لا بديل عن فكرة بناء الدولة والعيش في كنفها.

فمتى نرى أنفسنا بأنفسنا، نقف صفوفا، لتسليم السلاح غير الشرعي للدولة؟ متى نحمل سجلات السلاح الى الدولة ونجدولها كما فعلنا سابقا، دون أن تعلم من أحداثنا، ونتفق معها على الخروج من القاع، بعدما دخلنا إليه في غفلة منها؟

ليس الأمر سهلا، ولكنه ليس مستحيلا، إذا ما أردنا أن نسترجع الجنوب والضاحية ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وقرى الحدود وبلداتها وأراضيها كلها.

متى نعترف أن دولة الإنتداب كانت أصلح لنا فلنشهدها اليوم على ما إقترفت أيادينا من بعدها، ونخرج السلاح، نسلّمه للدولة. ونخرج نحن بعده من القاع، الذي عشنا فيه منذ مئة عام، حتى مشارف المئوية الثانية.