بين الخضوع السقراطي أو التمرد الإسبارطي
قدمت السياسة نفسها، بدءاً من الخميس الماضي، انها قوامة على القضاء، وعلى القضاء ان يحترس كثيراً، وهو يقارب القضايا الجرمية المحالة أمامه، لئلا يتهم باستهداف هذا أو ذاك.. أو هذه الطائفة أو تلك..
وظهر من مجرى ما حدث بعد قرار المحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الماضي (2020)، والذي شمل رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، ووزير مالية سابق، لكنه نائب حالي، وهو القيادي النافذ في حركة «أمل» علي حسن خليل، والنائب البقاعي، والعضو البارز في حركة «أمل» أيضاً، غازي زعيتر، ولكن بصفته وزيراً سابقاً للأشغال، وهي الوزارة المعنية بالاشراف على المرفأ، وكذلك الحال، بالنسبة للوزير السابق في تيار «المردة»، يوسف فنيانوس، عندما كان وزير أشغال في الحكومة، التي كان على رأسها سعد الحريري، قبل ان تستقيل في 29 ت2 (2019) وتأتي بدلاً منها الحكومة الحالية، التي يصرف الأعمال فيها دياب، ويقال ان الادعاء عليه، لا يقع في مكانه الصحيح، وهو إدعاء سياسي، لأن الرئيس دياب رفض دعوة حكومة تصريف الأعمال الى عقد جلسة، لاتخاذ جملة قرارات، تتعلق بإعادة التعاقد مع شركة للتحقيق المالي الجنائي، لا سيّما في حسابات مصرف لبنان، وربما اتخاذ «قرار ما» بحق حاكم المركزي رياض سلامة، الذي من المفترض ان يمثُل أمام القاضية غادة عون، المدعي العام الاستئنافي في جبل لبنان.
على الجبهة النيابية – الوزارية المعنية، بدا الموقف شبيهاً بما حصل على الجبهة الحكومية: استنفار بوجه القرار، وكلام عن استنسابية، وخرق دستوري، وان الادعاء بعيد عن وحدة المعايير، وشكلت زيارة الرئيس سعد الحريري الى السراي الكبير، ابلغ رفض لقرار صوان، ومحطة صدام مباشر مع بعبدا، التي سارعت الى إعلان أن لا سلطة لها على المحقق العدلي، ولا حتى على قراره، نافية ما نقل عن لسان الرئيس (رئيس الجمهورية) من توعّد بوضع نبيه بري ووليد جنبلاط داخل جدران السجن، الاول هو رئيس المجلس النيابي الحالي، ورئيس حركة «أمل»، والثاني هو الزعيم الدرزي الأكبر، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي..
في إدعاء صوان، وهو الأول من نوعه، في جريمة من هذا النوع الإشارة الى «بجرم الإهمال والتقصير والتسبب بوفاة وإيذاء مئات الأشخاص».
اثارت هذه النقطة حفيظة رؤساء الحكومات السابقين والمجلس الشرعي الأعلى ودار الفتوى، وقبل ذلك رئيس حكومة تصريف الأعمال المعني مباشرة. وجاء في تصريح الرئيس المكلف تأليف الحكومة: «الدستور واضح، ورؤساء الحكومات يمثلون فقط أمام محكمة خاصة يشكلها المجلس النيابي.. أما الإعتداء على الدستور، والإدعاء على رئاسة الحكومة، فهذا أمر مرفوض».. ثم دعك عن أنني «أتيت للوقوف مع رئيس الحكومة والتضامن معه»، فهذا كلام في السياسة. وفيه نجاعة في الموقف والسلوك، وخطوة سياسية في سياق تأكيد زعامة الرئيس الحريري للساحة الإسلامية السنيّة.
النقاش، الذي يقع في موقعه الصحيح، يقتضي أولاً العودة إلى الدستور. فالمادة 70 منه تنص: «لمجلس النواب أن يتهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بإرتكابهم الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم، ولا يجوز ان يصدر قرار الاتهام إلَّا بغالبية الثلثين من مجموع اعضاء المجلس، ويحدّد قانون خاص شروط مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء الحقوقية».
أمَّا الجهة الصالحة للمحاكمة، في ما خص رئيس الحكومة والوزراء، فتجيب عنه المادة 71: «يحاكم رئيس مجلس الوزراء والوزير المتهم أمام المجلس الأعلى (لمحاكمة الرؤساء والوزراء..)، وذلك وفقاً للمادة 80 من الدستور.. والمجلس الأعلى، له قانون خاص، وهو مؤلف من سبعة نواب أعضاء فيه، ولكن لا أدري إذا كان اكتمل بتعيين القضاء الثمانية.
في السياق هذا، أثيرت جوانب ذات بعد دستوري وسياسي، دفعت حزب الله الذي قرر الإنخراط أكثر فأكثر في العملية الداخلية، فليجأ حيناً الى القضاء، ويكتفي أحياناً بالردّ السياسي، على مَنْ يستهدفه، الى دعوة قاضي التحقيق المختص (أي القاضي صوان) إلى «إعادة مقاربة هذا الملف الهام من جديد، واتخاذ الإجراءات القانونية الكفيلة بالوصول الى الحقيقة المنشودة بمعايير موحدة بعيدة كلياً عن التسييس».
من النقاط التي أثيرت، لماذا اكتفى المحقق العدلي فقط بهؤلاء في الإدعاء الذي تناول شخصيات رسمية، بعضها في موقع المسؤولية، وبعضها خارج المسؤولية الرسمية..
ثمة من صوَّب بإتجاه وزراء من لون آخر، وصولاً إلى رئيس الجمهورية، وغيره من الشخصيات المعنية، رسمية، أم إدارية أم أمنية..
بداية، تتحدث المادة 20 من الدستور عن ان «السلطات القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام ينص عليه القانون، ويحفظ بموجبه للقضاة والمتقاضين الضمانات اللازمة.. أما شروط الضمانة القضائية وحدودها فيعينها القانون، والقضاة مستقلون في اجراء وظيفتهم..»، وصولاً الى المادة 60، التي تنص: «لا تبعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بوظيفة إلَّا عند خرقه الدستور، او في حال الخيانة العظمى. أما التبعة فيما يختص بالجرائم العامة فهي خاضعة للقوانين العامة».
لا حاجة لجدل قانوني او دستوري، في هذه المقالة.. فالمسألة تتعلق بالإضاءة على ما يجري، أمَّا الجوانب المشروعة أو غير المشروعة، في سياقيها الدستوري والقانوني، فهي تعني المعنيين بها.. إلَّا أن صورة الوضع تستدعي جملة من الحسابات والاحتمالات، والأسئلة المحرجة وغير المحرجة:
1 – لماذا ذهب الرئيس دياب، وربما الوزيران المعنيان الى دائرة المحقق، او استقبلاه في اطار الجريمة التي اصابت بيروت، ولو على سبيل الشهادة..
2 – ثم هل ان علم رئيس الجمهورية «بوجود كميات من نيترات الأومنيوم في المستودع رقم 12 في مرفأ بيروت من خلال تقرير للمديرية العامة لأمن الدولة وصله في 21 تموز الماضي: أي قبل اسبوعين من وقوع الانفجار، وعدم ملاحقته الى النهاية، تشكل جرماً عادياً مثلاً..».
وعندها كيف تتم الملاحقة؟
من المآخذ الكبرى على المحقق العدلي: عدم معرفة لغاية تاريخه من أدخل كميات الأمونيوم وحجم الكميات التي انفجرت، وبإذن مَنْ أدخلت.. الى آخر الأسئلة التي تحرج الرأي العام..
وبصرف النظر عن التجاذب الحاصل، واعلان الرئاسة الأولى انها لا تتدخل في عمل المحقق العدلي «لا من قريب ولا من بعيد.. مع تأكيد حق أفراد عائلات الشهداء والمصابين معرفة المسؤول عن الكارثة التي حصلت…»، والتظاهر الشعبي المحدود الداعم للمحقق العدلي، فإن ما أعلنه جنبلاط عبر «التويتر» يستحق وقفة، ولو عابرة، لجهة «أن التحقيق في انفجار المرفأ يجب ان يشمل الجميع فوق كل اعتبار طائفي أو سياسي أو دستوري.. احترموا شعور الذين فقدوا كل شيء. حافظوا على القضاء وعززوا استقلاليته فوق الحسابات الضيقة».
الدعوة الجنبلاطية تعني دعم غير مباشر للمحقق العدلي، وتمايز عن أصدقاء أو حلفاء.. فما الذي سيحصل بدءاً من اليوم:
1 – هل يزور صوان السراي الكبير اليوم، بوصفه مدعياً ومحققاً مع الرئيس دياب أم لا؟ أم أن الرئيس دياب، سيستقبله، ويبلغه بـ«دفع انتقاء الصلاحية». وهذا مخرج قانوني يحفظ هيبة القضاء ومكانة رئاسة مجلس الوزراء، وهذا المقام الدستوري، الركيزة الاساسية في نظام الحكم في دستور الطائف؟
2 – ماذا سيكون عليه الحال، في ما خصَّ الوزراء، في اليومين التاليين: هل يذهب محامون عنهم بأحد الدفوع الشكلية، ومنها انتقاء الصلاحية، او التحصن بالحصانة النيابية، لدى وزيرين على الأقل؟
اليوم، يتضح المشهد.. وينكشف فصل من فصول المعاناة اللبنانية بين مجتمع التسلط، ومجتمع الإحتكام الى معايير الحياة المعاصرة: الدستور والقانون، والعدالة؟
وبعيداً عن الحسابات والمعادلات، وتشكيل عناصر غلبة أو ما شابه، في مشهد سياسي متأزم، يصبح من المفيد تحديد التخوم بين دور المؤسسات، واحترام كلّي التسامي للدستور، وخضوع سقراطي للقوانين، وتمرد إسبارطي عليها، بصرف النظر عن ظلمها أو حلمها، عشية استحقاقات كبرى، تطرح السؤال الكبير: عن مصير وطن صغير، محكوم فقط بالبقاء أو الفناء؟
