Site icon IMLebanon

«رهائن الخليج»: كسر هذه الحلقة ليس مستحيلاً

 

 

 

اعتادت دول الخليج أخذ اللبنانيين العاملين في أسواقها رهينة إخضاع لبنان وانتزاع تأييده الكامل لمصالحها. وعلى مرّ العقود الماضية، تحوّلت عمليات «الابتزاز» إلى قاعدة تحكم علاقة هذه الدول بلبنان، برضى قسم من اللبنانيين خضعوا لمعادلة «لقمة العيش» مقابل «السيادة والكرامة». «أحفاد» هذا الفكر يروّجون، اليوم، للمعادلة نفسها التي لا يبدو أن كسرها مستحيل

 

كل مغترب لبناني في دول الخليج هو رهينة. كسر هذه المعادلة ليس مستحيلاً، لكن ذلك يتطلب أكثر من احتجاز السعودية لرئيس مجلس الوزراء سعد الحريري وإجباره على الاستقالة وإذلاله على الملأ. يتطلب الأمر أن يكون هناك اقتناع لبناني بأن أساس المشكلة يكمن في «تبنّي» لبنان نموذجاً اقتصادياً يقوّض خلق فرص العمل، ويدفع طالبي العمل إلى المفاضلة بين البطالة أو الهجرة بحثاً عن «لقمة العيش»، ثم يتركهم بعد ذلك على قارعة «البازار» السياسي، فإما يدخلون إلى مسلك الزبائنية السياسية في السوق المحلية حيث يطلبون العمل من «الزعيم»، أو يجري تحويلهم إلى سلعة للمبادلة السياسية في المهجر.

 

طرد جماعي؟

 

مع انفجار أزمة احتجاز السعودية لرئيس حكومة لبنان سعد الحريري، عادت لهجة الخليج إلى التهديد بمقاطعة لبنان اقتصادياً لإجباره على الخضوع لمصالح هذه الدول ورغباتها. وبرزت مخاوف من أن تلجأ السعودية إلى سيناريو «الطرد الجماعي» للبنانيين العاملين في أسواقها، والضغط على دول الخليج للقيام بالأمر نفسه.

في الواقع، إن لهجة التهديد بطرد لبنانيين أمر مارسته السعودية على مدى العقود الماضية. إلا أن تكراره بات يتسارع خلال السنوات الماضية، وصولاً إلى حدود أخذ إجراءات شبه دائمة ضدّ اللبنانيين العاملين في دول الخليج لتصنيفهم مذهبياً وطائفياً وأمنياً. وبالفعل قامت السعودية والإمارات ودول أخرى بطرد لبنانيين زعمت أن لديهم ارتباطات مع حزب الله، ثم أوقفت منح سمات الدخول للبنانيين إلى أراضيها إلا بموافقة أمنية، وبدأت تتوسع في هذا الأمر وصولاً إلى طرد أصحاب مؤسسات متوسطة وصغيرة أقاموا لسنوات عديدة في الخليج وأفنوا نصف عمرهم في تكوين هذه الأعمال.

كذلك، بدأ المغتربون في هذه الدول يلمسون تغييرات سلوكية ضدّهم لجهة التعمّق في التدقيق بهوياتهم وأعمالهم، وصولاً إلى تلقّي أسئلة للتصنيف المذهبي على الطريقة اللبنانية: أين تسكن؟ من أي قرية أو بلدة؟ ما هي العلاقة التي تربطك بفلان؟ وغيرها من الأسئلة التي لا هدف لها سوى حصر الانتماء، علماً بأن عمليات الإبعاد من دول الخليج تضمنت طرد لبنانيين من مذاهب مختلفة، وإن كانت الغالبية شيعية.

 

مواجهة سياسية أم اقتصادية؟

 

المرحلة السابقة من عمليات الإبعاد والطرد كانت بمثابة عمليات إفرادية انتقائية. والاعتقاد سائد بأن الهدف منها هو تحويل المُبعدين إلى «أمثولة» لتخويف غيرهم. أما اليوم، فما تروّج له السعودية وأزلامها في لبنان من سياسيين وبعض رجال الأعمال، عن إمكان تنفيذ طرد جماعي، يثير أسئلة عن الاستعدادات اللبنانية للمواجهة وعن قدرة السعودية وباقي دول الخليج على ارتكاب مجزرة من هذا النوع بعيداً عن حالة الجنون المطلق. وقد طرحت هذه المخاوف في لقاء رئيس الجمهورية ميشال عون بالهيئات الاقتصادية الاسبوع الماضي، وفاجأهم الرئيس بالقول: «روحوا فتشوا عن أسواق جديدة. وجع ساعة ولا كل ساعة».

موقف الرئيس جاء في وقته. الجنون المطلق حالة سعودية محتملة لاستعمال المغتربين ورقة للمقايضة على موقف سياسي أو خطوة سياسية من حزب الله. غير أن التدقيق الموضوعي في خطوة كهذه، يظهر أنها صعبة التحقيق، وأن وجود اللبنانيين في الخليج ليس عادياً، بل يرتبط جذرياً بأعمال ومشاريع وخبرات لا يمكن الاستغناء عنها بهذه السهولة. هذا الواقع يعزز احتمال أن تضع السعودية جنونها جانباً، لكنه لا يلغي إمكانية الابتزاز الإفرادي، وهو لا يشكّل حلاً جذرياً لهذه الأزمة ومنع الابتزاز مستقبلاً.

 

العلاج الجذري

 

وأياً تكن الخطوة المقبلة، فالرئيس مطّلع على تاريخ الابتزاز السعودي. وكلامه أمام الهيئات يعني أن الوقت حان لسحب هذه الورقة من يد السعودية. إلا أن هذا الموقف ليس كافياً. منع الابتزاز والاسترهان يوجب تغييراً جذرياً في بنية الاقتصاد اللبناني في اتجاه خلق المزيد من فرص العمل. فبحسب الخبير الاقتصادي كمال حمدان، إن «اقتصاد لبنان لا يخلق فرص عمل»؛ فمن أصل «50 ألف طالب عمل يتدفق سنوياً إلى سوق العمل، ليس هناك وظائف لأكثر من نصف العدد»، وهذا يعني أنه «في ظل البنية الاقتصادية الحالية ليس هناك أفق في سوق العمل سوى الهجرة أو الانضمام إلى جيش العاطلين من العمل».

 

إذاً، الخيارات محدودة أمام طالبي العمل في لبنان من المتخرّجين الجدد والمصروفين من المؤسسات القائمة. ولذا، فإن «غالبية الذين ليس لديهم عمل في لبنان يهاجرون ويختارون دول الخليج بسبب ما يعرف بالعوامل الجاذبة، أي المداخيل المرتفعة نسبياً التي تمنح المغترب أملاً بادّخار ما يتيح له العودة إلى لبنان لاحقاً. الجدوى المالية والاقتصادية من الهجرة إلى الخليج أعلى بكثير من الهجرة إلى أوروبا حيث يكون الفرد متساوياً مع غيره، إذ إن 50% من العاملين في فرنسا يقلّ دخلهم عن 2000 يورو شهرياً».

وقد نتجت الخيارات المحدودة انطلاقاً من «تكريس بنية اقتصادية في لبنان يلعب فيها الريع دوراً أساسياً. 70% من الاستثمارات تذهب إلى العقارات، وهي تخلق فرص عمل غير مقبولة من الذين استثمروا مئات آلاف الدولارات على التعليم. اقتصادنا غير مؤهل لإنتاج فرص عمل (نبيلة)، فيما لا أفق في بنية السوق المحلية، وهو ما يدفع نحو الهجرة بحثاً عن عمل». وليس واضحاً إذا كان من سوء الحظ أو من حسنه، أن يبلغ عدد العاملين اللبنانيين في الخليج ما يتراوح بين 250 ألفاً و300 ألف، وهم يمثّلون ثلث العاملين المهاجرين».

قوّة المغتربين في مؤهلاتهم

 

وفي المقابل، فإن غالبية مواطني الخليج، بشكل عام، ليسوا مهيّئين للعمل في الأعمال المطلوبة في المشاريع والاستثمارات والمؤسسات العاملة هناك. وهذا الأمر يجعل الطلب على العمالة اللبنانية مرتفعا قياساً إلى الكلفة العالية للعمالة الأوروبية أو الأميركية، أو غيرهما من الجنسيات غير العربية. اللبناني مطلوب في الخليج لأنه قادر على القيام بالأعمال التي تتطلب عمالة ماهرة وتقنيات مرتفعة وسواها، وكلفته على المؤسسات الخليجية أعلى من العمالة الآسيوية والعربية بشكل عام، لكنها تبقى أقل بكثير من العمالة الغربية.

لذا، فإن «الاستغناء عن اللبنانيين العاملين في الخليج لا يمكن أن يحصل بكبسة زر. متوسط سنوات العمل للبنانيين في الخليج لا يقل عن 8 سنوات، وهذه خبرة لا يمكن استبدالها بسرعة وسهولة. وبديل اللبنانيين هو المواصفات الأوروبية الباهظة الكلفة، فضلاً عن أن عامل اللغة والثقافة يلعب دوراً كبيراً في تنفيذ الأعمال على اللبناني مقارنة مع الأوروبي»، يقول حمدان.

 

التحويلات من الخليج

 

قال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لموقع بلومبيرغ إن أرقام البنك الدولي تشير الى أن تحويلات المغتربين ستبلغ 8 مليارات دولار في نهاية 2017، منها مليار دولار من دول الخليج، أي ما يوازي 14.3%. ولفت إلى أن هذه الأرقام «كانت أعلى، لكنها انخفضت بسبب تراجع أسعار النفط». وعلى مرّ السنوات الماضية، كانت التحويلات ضمن مسار ثابت إلى أن انخفضت أسعار النفط التي انعكست سلباً على المشاريع في دول الخليج وأدّت إلى خفض انفاق الاستثمار الخليجي، وانعكس ذلك على مداخيل العاملين هناك. وباستثناء هذا العامل، فإن المخاوف من أثر واسع لعمليات ترحيل لبنانيين من الخليج ليست في مكانها، إذ إن عمليات الترحيل السابقة لم تنعكس مباشرة في التحويلات.

 

الكتلة المتحركة «لم تتحرك»

 

ثمة كتلة نقدية في القطاع المصرفي اللبناني سريعة التحرّك وجاهزة للانسحاب في أي لحظة من لبنان. وبحسب تأكيدات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في حوار أجري قبل يومين مع «بنك أوف أميركا»، يتراوح حجم هذه الكتلة بين 3 مليارات و5 مليارات دولار. وفيما نقل موقع بلومبيرغ عن سلامة قوله إن الأموال التي انسحبت من لبنان منذ استقالة الرئيس سعد الحريري تبلغ 800 مليون دولار، لفتت مصادر مصرفية إلى أن هذا المبلغ ليس ودائع تم سحبها من لبنان، بل مجموع المبالغ التي تم تحويلها من الليرة اللبنانية إلى الدولار منذ بداية الأسبوع الماضي.

 

الإنتربنك 70%

 

مصادر مصرفية قالت لـ«الأخبار» إن فائدة الإنتربنك بين المصارف ارتفعت يوم الجمعة الماضي إلى 70% بعدما كانت تبلغ 4% في آخر يوم عمل للسوق المالية قبل استقالة الرئيس سعد الحريري. وكانت فائدة الإنتربنك قد ارتفعت تدريجاً في السوق، إلى أن بلغت أقصى مستوى لها الجمعة لتعود الاثنين إلى 15%. ومن أسباب الارتفاع أن مصرف لبنان منع المصارف من تسييل سندات خزينة تحملها لتقنين حجم السيولة بالليرة في الأسواق والتخفيف من الطلب على الدولار.