Site icon IMLebanon

في سوريا حرب فاترة بعد الباردة

بين سوريا وروسيا (والاتحاد السوفياتي سابقا) علاقات ثابتة منذ عقود، لم تبدّل مسارها أحداث أو تحولات، خلافًا لما حصل لعلاقات موسكو مع دول حليفة في المنطقة، أبرزها مصر بعد اتفاقية كمب ديفيد والعراق في زمن صدام حسين وبعد سقوطه. وعلى رغم تحسّن العلاقات السورية ـ الأميركية بعد حرب 1973، حافظت دمشق على علاقات وثيقة مع موسكو.

خسر الاتحاد السوفياتي الحرب الباردة في 1989 وتفكّك وتراجع نفوذه إلى ادنى مستوى منذ الحرب العالمية الثانية. لكن في السنوات الأخيرة، وبعد مجيء الرئيس بوتين إلى الحكم، إستعادت موسكو بعض عافيتها على الساحة الدولية. وجاء الاختبار الأول في جورجيا في 2008، حيث واجهت موسكو بشدة محاولة توسّع الحلف الأطلسي، تبعه انتكاسة ليبيا في 2011، بعدما ذهبت الدول الكبرى بعيدا في تفسير وتطبيق قرار مجلس الأمن 1970، خلافا لوجهة النظر الروسية، فتحوّل أداة عسكريّة بيد الحلف الاطلسي لإسقاط النظام الليبي.

وفي آخر سلسلة تحوّلات الربيع العربي انطلقت الأزمة السورية فكانت المنازلة الأكثر حدّة بين موسكو والدول الكبرى، باستثناء الصين المتحالفة مع روسيا. وسرعان ما استعادت المواجهة في سوريا بعض ملامح الحرب الباردة. فبعد سنوات من التراجع، سعت موسكو الى تثبيت موقعها ودورها في المنطقة في مواجهة الولايات المتحدة. وازدادت الهوة اتساعا مع تزامن الأزمة السورية مع مواجهة أخرى على حدود النفوذ التاريخي لروسيا القيصرية والشيوعية وما بعدهما. فمع محاولة انضمام أوكرانيا الى الاتحاد الاوروبي في ظل التوتر الشديد في العلاقات بين روسيا وأوكرانيا، ردّت موسكو على التحدي الأميركي ـ الأوروبي بضمّ شبه جزيرة القرم في سابقة لم تشهد اوروبا مثيلًا لها منذ الحرب العالمية الثانية. إلا ان النزاع ظلّ في نطاق محدود. ففي نهاية المطاف، ساحة الصدام، أوكرانيا، على تخوم الاتحاد الأوروبي، وألمانيا تحديدًا، لا الولايات المتحدة. سارعت المستشارة الالمانية ميركل الى احتواء النزاع، وهي منهمكة بمعالجة أزمة اقتصادية في اليونان تهدّد تماسك الاتحاد الأوروبي ومنظومة اليورو. هكذا استطاعت موسكو أن تستعيد بعض الزخم في سياستها الخارجية بقيادة رئيس قوي يلقى دعم شعبه لاستعادة دور روسيا ومكانتها على المستويين الأوروبي والدولي.

أما الأزمة السورية فهي أكثر تعقيدًا وتأثيرًا في مصالح عدد من الدول الإقليمية والدول الكبرى من أزمتي ليبيا أو جورجيا. ولروسيا مصالح اقتصادية وعسكرية وسياسية في سوريا منذ خمسينيات القرن الماضي. وبعد اتفاق فيينا أصبحت سوريا أكثر أهمية بالنسبة إلى روسيا ولغيرها من دول المنطقة، خصوصا إيران. وما قرار موسكو التدخل عسكريا في سوريا سوى تأكيد أنها ليست في وارد التراجع ليس فقط دعمًا للنظام بل أيضًا بسبب الصراع القائم بين روسيا وأميركا ومعها الدول الأوروبية.

سوريا باتت عمليا خط دفاع روسيا الأول في مواجهة الغرب. ولروسيا ايضا نزاع مزمن مع التنظيمات الإسلامية المتطرفة في الشيشان وداخل روسيا. عدد المواطنين الروس الذين التحقوا بـ «داعش» وسواه ربما يفوق عدد الغربيين من جهاديّي الدولة الإسلامية. «11 أيلول» روسيا سبق «11 أيلول» أميركا، وكان أشد خطرًا على استقرار البلاد من خطر التنظيمات الإرهابية على أميركا.

التصميم الروسي في سوريا يقابله تردّد أميركي. أهداف موسكو واضحة ومتناسقة، بينما أهداف واشنطن مبعثرة ومتناقضة. تسعى واشنطن إلى القضاء على «داعش» وتتعاون مع سراب «المعتدلين»، ومنهم جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة، وتريد إضعاف الدور الإيراني والروسي ومسايرة حلفائها العرب. تختلف واشنطن مع أنقره حول الأكراد وتتّفق معها في محاربة «داعش»، وتطالب بإزاحة النظام وتصرّ على تماسك الجيش السوري الموالي للنظام. بموازاة هذا التخبّط، ترى موسكو أن الفرصة متاحة لمنازلة قد تكون رابحة وغير مكلفة في سوريا، وهي تعتمد على حليفين موثوقين: النظام في الداخل وإيران من الخارج والداخل.

قد لا تكون غاية التصعيد حربًا تقليدية في سوريا، فالحرب الفاترة، بدل الحرب الباردة أو الساخنة، تفي بالغرض، أقلّه في المرحلة الحاضرة من النزاع المتواصل إلى أَجَلٍ، لا فرق إن كان مسمّى أو قد يأخذ له اسمًا تظهر معالمه في الطريق. إنها عاصفة حزم روسية تُربك العدو والصديق، البعيد والقريب، وهي مرحلة جديدة في أزمة متواصلة لا أحد من أطرافها يعرف كيف ومتى ستنتهي.