Site icon IMLebanon

“حزب الله” والراعي والذئب والحمل

 

لا يستطيع “حزب الله” أن يخفي نفسه بثياب الحمل. هو نفسه يرفض أن يكون على صورة الحمل ويعطي انطباعاً بأنّه ذئب على قاعدة أنّه “إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب”. ولذلك يتعاطى مع من لا يؤيّدون طروحاته ويعارضون استراتيجياته ونهجه وتبعيته لنظام ولاية الفقيه في إيران، على أساس أنّهم حملان يعكّرون عليه صفوة مياه النهر، وإن لم يكونوا هم من يفعلون ذلك فقد يكون آباؤهم أو أجدادهم. هي الحجّة الدائمة للإنقضاض عليهم. والأمثلة كثيرة.

 

لا يقبل “حزب الله” أن يتحدّاه أيّ كان في خياراته وطرق العمل التي يتبعها. يقبل أن يتمّ إعلان عدم الموافقة من دون أن يرتقي الموقف إلى الإعتراض العملي على الأرض. هكذا مثلًا لا يكترث للأصوات التي تقول إن سلاحه غير شرعي وإنه يخدم مشروع إيران في المنطقة ويُعرّض لبنان للخطر، ويعتبر أنّها ستبقى أصواتاً تذهب في الهواء من دون أن يكون لها أيّ تأثير على واقع الأمور ومسار خططه. أمّا أن يصدر موقف على مستوى الموقف الذي أعلنه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي فتلك مسألة أخرى لا يمكن إلّا أن يتوقّف عندها “الحزب” ليدرس طريقة التعامل معها.

 

فوق طاقة لبنان

 

في 15 آب 2005 في أربعين الأمين العام السابق لـ”الحزب الشيوعي اللبناني” جورج حاوي الذي اغتيل في 21 حزيران من ذلك العام، وقف رفيق دربه محسن ابراهيم أمين عام “منظمة العمل الشيوعي” ليعلن أن “الحركة الوطنية ارتكبت خطأين، أوّلهما أنّها استسهلت الحرب الأهلية معبراً لتغيير بنية النظام الطائفي. وثانيهما أنّها أباحت لبنان للمقاومة الفلسطينية، ممّا حمّله فوق طاقته وأدّى إلى انشطاره شطرين متقاتلين، في ظلّ تخلّي الدول العربية قاطبة عن التزام نصرة الشعب الفلسطيني ودعم ثورته”. اللافت في هذا الإعلان أمران:

 

الأمر الأول أنّ عناصر من “حزب الله” متهمون باغتيال حاوي وقد بدأت محاكمتهم قبل يومين، في 22 تموز الحالي، أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في هذه القضية وفي قضيتي محاولتي اغتيال الوزيرين السابقين مروان حماده والياس المرّ. مع الإشارة إلى أن الحكم في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري سيصدر أيضاً عن هذه المحكمة في 7 آب المقبل. وهذه من الأمثلة على طريقة تعاطي “الحزب” مع من يعتبر أنّه بات يشكّل تهديداً لمشروعه ولسلاحه، وهي أمثلة مرتبطة بمرحلة صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي الذي طلب نزع سلاح “الحزب” وانتخاب رئيس جديد للجمهورية بدل التمديد للرئيس أميل لحود وأدّى لاحقاً إلى انسحاب جيش النظام السوري من لبنان.

 

الأمر الثاني أن ما قاله محسن ابراهيم عن خطأي “الحركة الوطنية” خصوصاً لجهة تحميل لبنان أكثر من قدرته على الإحتمال خدمة للقضية الفلسطينية مما أدى إلى انفجاره وانشطاره، هو ربّما الخطأ نفسه الذي يرتكبه “حزب الله” اليوم من خلال تحميل لبنان أيضاً بكلّ مكوّناته ما لا طاقة له على احتماله، الأمر الذي سيؤدّي حتماً إلى انفجاره وانشطاره.

 

لهذا السبب فاض الصبر عند البطريرك مار بشارة بطرس الراعي ولم يعد يستطيع أن يحتمل أكثر التهديد الذي يتعرّض له لبنان بسبب سياسة “حزب الله” وانخراطه في صراعات المنطقة، من دون أن يأخذ في الإعتبار حالات الإعتراض عليه وتعاطيه معها بالإنكار والتصدي وإمكانية تكرار ما حصل في العام 2005.

 

بين الراعي و”الحزب”

 

لم يسمّ البطريرك الراعي “حزب الله” في نداء البنود الثلاثة في 5 تموز ولكنّه كان يشير إليه بوضوح ويجاهر بذلك في حديث إلى “الفاتيكان نيوز”. وإذا كان “حزب الله” تجنّب الردّ المباشر على الراعي فإن صمته يبقى ردّاً بليغاً. وما لم يقله “الحزب” مباشرة تولّى غيره قوله نيابة عنه وصولاً إلى شنّ حرب تكفير ضد الموارنة والبطريرك، مع اتهامهم بالإجمال بالعمالة والتهديد بأن المرحلة السابقة التي لعبوا فيها دوراً لتأسيس الكيان اللبناني قد انتهت. هذا الكلام ليس ردّاً على ما قاله الراعي فقط، بل يكشف النوايا الأصلية التي يتبنّاها “الحزب” طريقاً ونهجاً وممارسة.

 

ففي “رسالته المفتوحة” إلى المستضعفين في العالم في 16 شباط 1985 التي شكلت الانطلاقة العلنية الاولى له، بعد مرور ثلاث سنوات على تأسيسه في العام 1982، كان خطابه الأساسي متمحوراً حول مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والنظام اللبناني والمارونية السياسية إضافة إلى قوى الاستكبار العالمي ومؤسسات الأمم المتحدة، كما تبنى الدعوة إلى إقامة “الحكم الإسلامي” من دون أن يفرضه على احد بالقوة: “إنّنا أبناء أمّة “حزب الله”، نعتبر أنفسنا جزءاً من أمّة الإسلام في العالم. إنّنا أبناء أمّة “حزب الله” التي نصرالله طليعتها في إيران، وأسّست من جديد نواة دولة الإسلام المركزية في العالم، نلتزم أوامر قيادة واحدة حكيمة عادلة تتمثّل بالوليّ الفقيه الجامع للشرائط. كل واحد منّا يتولّى مهمته في المعركة وفقاً لتكليفه الشرعي في إطار العمل بولاية الفقيه القائد”.

 

وهذا الأمر أكّد عليه الأمين العام لـ”حزب الله” لاحقاً السيّد حسن نصرالله بقوله: “الفقيه هو وليُّ الأمر زمن الغيبة، وحدود مسؤوليته أكبر وأخطر من كل الناس، ويفترض فيه، إضافة إلى الفقاهة والعدالة والكفاءة، الحضور في الساحة والتصدّي لكل أمورها، حتى يعطي توجيهاته للأمّة التي تلتزم بتوجيهاته. نحن ملزمون باتباع الولي الفقيه، ولا تجوز مخالفته. فولاية الفقيه كولاية النبي والإمام المعصوم، وولاية النبي والإمام المعصوم واجبة، ولذلك فإن ولاية الفقيه واجبة. والذي يردّ على الولي الفقيه حكمه فإنّه يردّ على الله وعلى أهل البيت. فمن أمر الولي الفقيه بلزوم طاعتهم فطاعتهم واجبة”.

 

حدود الصبر

 

على رغم مرور 35 عاماً على تلك الرسالة لا يزال “حزب الله” فصيلاً في جيش ولاية الفقيه. ولا يزال السيّد نصرالله يجاهر أنه جنديّ في هذا الجيش وأنّ كلّ الدعم يأتيه من إيران، وأنّ كلّ ما يقوم به في سوريا والعراق واليمن والعالم كله تلبية للتكليف الشرعي الذي يحرّكه. ولذلك لا يمكنه أن يُحمّل لبنان أكثر من طاقته وأن يضع لبنان في خدمة هذا التكليف الذي لا يعنيه إلا وحده.

 

ثمّة استكبار يمارسه “الحزب” على غيره من هذه الناحية. لا حرمة لأحد أمام ما يريده “الحزب”. من الإستيلاء على أراضي الكنيسة المارونية في لاسا مثلًا إلى الكلام الذي طاول البطريرك الراعي والموارنة عموماً. لذلك بعُدت المسافة بين لبنان الكيان ولبنان الذي يريد “حزب الله” أن يكون حاملاً لمشروعه ومطيّة له. ولذلك كانت صرخة الراعي وفحواها أنّه لا يمكن أن يعتبر “الحزب” أنّه يستطيع أن يفعل ما يريده من دون أن يعترضه أحد ومن دون أن يرفع الصوت في وجهه أحد وأن كلّ الناس يجب أن تكون مثل الغنم.

 

لقد حاول الفلسطينيون مع الحركة الوطنية تحميل لبنان أكثر من طاقته حتى انفجر وخرجت منظمة التحرير من لبنان. وحاول النظام السوري أن يُحمّل لبنان أيضاً أكثر من طاقته حتى انفجر بوجهه وتمّ إجبار قواته على الخروج من لبنان. اليوم “حزب الله” من خلال سياسته التي لا يضع فيها أي اعتبار للتراجع والمراجعة والتلاقي ولاحتمال انفجار الوضع في وجهه قد يلاقي المصير نفسه. لأن لبنان هو الذي سيبقى في النهاية. وسيجد “الحزب” نفسه وحيداً ولن يكون باستطاعة سلاحه أن يحميه.

 

مراجعة النقد الذاتي التي جهر بها محسن ابراهيم جاءت بعد 15 عاماً على انتهاء الحرب و23 عاماً على خروج منظمة التحرير من لبنان، و38 عاماً على اغتيال كمال جنبلاط ولن تكون مراجعة “حزب الله” مفيدة بعد 15 عاماً من اليوم. وإذا كان “الحزب” لا يستطيع أن يتحرّر من المشروع الذي يحمله فإنّه لا يستطيع أيضاً أن يسجن لبنان كلّه فيه.