Site icon IMLebanon

هولاند يفشَل في استعادة دور لبلاده

 

لا يختلف اثنان على أنّ زيارة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند إلى لبنان كانت «الزيارة الباهتة» في تاريخ زيارات الرؤساء الفرنسيين.

صحيح أنّ أحداً لم يعقد الآمال الكبيرة عليها حيال إنتاج أفكار جديدة على الأقل، إلّا أنّها جاءت أقلّ من عادية، حتى في الشكل، إلى درجة عدم اكتراث وسائل الإعلام العالمية بها بالمقدار الكافي، فوَردت في إطار خبر عادي وصغير محورُه المساعدات الماليّة المخصّصة لدعم اللاجئين السوريين.

وانطلاقاً من هذه الزاوية كان معارضو حصول الزيارة داخل الإدارة الفرنسية على حقّ يوم ضغطوا ونجَحوا في إرجائها مرّتين. الأولى في نهاية أيلول الماضي، والثانية يوم طرح الرئيس سعد الحريري مبادرتَه في ترشيح النائب سليمان فرنجية والتي لم تكتمل بسبب الموقف الثابت لحزب الله في دعم ترشيح العماد ميشال عون.

لكن ثمّة ما استلزم حصول هذه الزيارة اليوم، ذلك أنّ المنطقة دخلت في بداية مسار إرساء التسويات السياسية في سوريا، ما يستوجب حضورَ فرنسا لعدم إغفال مصالحها ووضعها بالكامل خارج الصورة الجاري تركيبها.

لذلك تأتي محطة القاهرة حيث سيتمّ توقيع زهاء ثلاثين اتّفاقية، مع الإشارة إلى الاهتمام الكبير الحاصل بمصر المرشّحة لتولّي دورٍ أساسيّ في الحلّ السوري واستعادة وظيفة حامية الاستقرار الإقليمي والذي تولّته في مراحل سابقة.

ولذلك رأت باريس أنّ سلبيات تدشين جولة هولاند في المنطقة من خلال البوّابة اللبنانية تبقى أقلّ بكثير من سلبيات تجاهل لبنان خشية رميِه في النسيان، وهو الذي يشكّل بالنسبة لفرنسا آخر ساحة شرق أوسطية تحتضن حضوراً ودوراً فرنسيَين، ولو بالحد الأدنى.

مِن هنا أيضاً تمّ التحضير جيّداً وقبل أسابيع للقاءٍ هو الأوّل من نوعه بين رئيس فرنسي ووفد نيابي رسمي لحزب الله.

صحيح أنّ السفير الفرنسي الذي تولّى تحضير كلّ برنامج زيارة هولاند حرصَ على مصارحة الجميع بأنّ الهدف الرئيسي للزيارة هو النازحون السوريون في لبنان، إلّا أنّ حصول اللقاء بين الرئيس الفرنسي ووفد «حزب الله» كان ليضفي طابع الإثارة ويعطي نكهة مختلفة لهذه الزيارة.

وفي الواقع وضَعت باريس العاصمة الأميركية في أجواء ترتيب لقاء مع وفد حزب الله، ولم يعترض المسؤولون الاميركيون على الفكرة، لا بل على العكس، ولكن مع الانتهاء من وضع كلّ تفاصيل اللقاء من خلال التواصل المباشر بين السفير الفرنسي وحزب الله طرَأ ما لم يكن في الحسبان.

فلقد أبدت السعودية انزعاجَها الشديد من حصول هذا اللقاء، كما «يتردّد في الصحف اللبنانية»، وبلغَ الانزعاج السعودي حدَّ إعادة النظر بكلّ أوجه التعاون الحاصلة بين البلدين، «إذ لا يمكن التعاطي مع فرنسا من زاوية الصداقة القوية، فيما الرئيس الفرنسي يلتقي بحزب الله ويمنحه شرعية دولية، وهو الذي صنّفته السعودية ودول الخليج منظّمة إرهابية»

بدت باريس مربَكة إثر ذلك، فهي التزمت ببرنامج واضح مع حزب الله، وفي الوقت نفسه فإنّها تَعتبر علاقتها مع الرياض والاتفاقات المتعدّدة التي وقّعتها خطاً أحمر.

وقيل إنّ الفريق القريب من هولاند بدأ البحث عن مخارج ممكنة وصلت الى حد طرح أحدهم إلغاءَ الزيارة برُمَّتها، لكنّ هذه الفكرة استُبعِدت فوراً. وفي المقابل فرملَ السفير الفرنسي حركتَه في اتّجاه حزب الله، وهذا الأخير قد يكون شعرَ بأنّ ثمّة مستجدّات سلبية في هذا الإطار، فبادر وأعلنَ عن إلغاء لقاء لم يكن مقرّراً بعد.

لكنّ ذلك لا يمنع استنتاج الرسالة الأولى من الفكرة الفرنسية التي كانت قائمة بلا اعتراض اميركي. ففي موازاة انطلاق مرحلة التسويات في سوريا والعراق واليمن بدأت مرحلة فتح خطوط التواصل المباشر مع حزب الله، وهي الفكرة الموجودة بقوّة في الدوائر المعنية بملفّات الشرق الأوسط ومنذ فترة لا بأس بها.

الاعتراف والتواصل مع «الجناح السياسي» لحزب الله في إطار الإقرار بدوره مستقبلاً، ولكن بعد إنجاز تفاهمات سيكون مسارها صعباً وضاغطاً، أي أنّ هذا التواصل الذي كاد أن يبدأ من خلال الرئيس الفرنسي سيَشهد ضغوطاً اميركية ماليّة واقتصادية، وربّما قضائية، ولكن بهدف إنجاز تسوية وتفاهمات وليس بهدف فتح أبواب معركة «كسر عظم».

والرسالة الثانية التي طبَعت زيارة الرئيس الفرنسي هي غياب أيّ دعوة لرحيل الرئيس السوري بشّار الأسد فمنذ اندلاع الثورة في سوريا تولّت فرنسا مهمّة رأس الحربة في دعم ومساعدة معارضي الأسد. ميدانياً تولّت التواصل مع الداخل السوري من خلال ساحة لبنان الشمالية حيث تولّى ضبّاط استخبارات فرنسيون إدارة هذه العمليات ميدانياً مع الفصائل المعارضة، وديبلوماسياً من خلال المواقف الحادة التي كان يتولّاها وزير الخارجية السابق لوران فابيوس.

أخيراً بدأت المواقف الفرنسية الداعية الى رحيل فوري للرئيس بشّار الأسد تخفتُ لتسود مواقف أكثر هدوءاً، فيما التواصل الاستخباري بين البلدين عاد بعيداً من الأنظار، ولو في أدنى درجاته.

لذلك فإنّ وجود هولاند في لبنان وتفقّدَه مخيّمات النازحين السوريين قرب الحدود مع سوريا من دون الدعوة الى رحيل الأسد مسألة بالغة الدلالات وتؤكّد أنّ سكّة الحلّ الجاري وضعُها في سوريا لا تشمل فكرة رحيل الأسد.

والواضح أنّ كلّاً مِن واشنطن وموسكو تدفعان في اتّجاه التسوية الجاري التفاهم بينهما حولها. واللافت أنّه منذ زهاء ثلاث سنوات بدأ الهمس داخل أروقة القرار الاميركي حول إنجاز تسوية سوريّة على مثال «اتّفاق الطائف» في لبنان. وتمّت تسميتها «الطائف السوري».

لكنّ طرفي النزاع رفضاه إلى حدّ الاستخفاف، ففيما كان المعارضون، ونعني هنا الدول الإقليمية الداعمة لهم، يصرّون على أن لا حلَّ من دون الرحيل الفوري للأسد، كان المؤيّدون، وخصوصاً إيران، يرفضون أيّ حلّ لا يضمن بقاءَ النظام ويضمن التواصل البرّي من طهران إلى جنوب لبنان.

وكان الاستنتاج يومها أنّ إنضاج تسوية «الطائف السوري» قد تكون بحاجة إلى مواجهات دموية تُنهك الجميع وتسمح بإنضاج ظروف التسوية المنتظَرة.

ولا شكّ في أنّ دخول العامل الروسي ساعد كثيراً في تهيئة المناخات المطلوبة، خصوصاً مع الطرفين الإقليميَين الأقوى والأكبر تأثيراً في سوريا: إيران وتركيا.

وصحيح أنّ مقرّرات القمّة الإسلامية المنعقدة في تركيا جاءت فضفاضة في بعض جوانبها ومتوافقة مع المطالب السعودية حيال إيران، لكنّ لقاء القمّة الذي جمعَ الرئيسين التركي والإيراني رجب طيّب أردوغان وحسن روحاني كان ربّما أكثرَ أهمّية ودلالة من الناحية السياسية.

تحدّث الرئيسان عن حلول إسلامية للمنطقة، ولكنّ هذا الكلام كان موجّهاً إلى الداخلين الإيراني والتركي، إلّا أنّ العبارة الأهمّ جاءت على لسان أردوغان الذي أشار إلى بدء مرحلة الحلّ الجدّي في سوريا.

طبعاً للدولتين هواجسُهما المشتركة بدءاً من الأكراد وصولاً إلى إدخال قوى إسلامية كورَثة لـ»داعش». لكن الأهمّ هو التفهّم الأميركي لسعي روسيا إلى الحد من طموح كلّ مِن ايران وتركيا بتوسيع دورَيهما الإقليمي إلى درجة كبيرة.

تحت وطأة هذا الاعتبار واعتبارات أُخرى ترزح الصورة الحربية في حلب. فواشنطن ومعها موسكو لا تمانعان من حصول بعض التقدّم للجيش النظامي السوري والمدعوم بقوات خليفة، من جهة لانتزاع مناطق أساسية من «داعش»، ومن جهة أخرى لجسّ نبض تركيا وجدّية قرارها بالانتقال من المرحلة العسكرية إلى المفاوضات السلمية.

ولكن في المقابل، فإنّ واشنطن وموسكو تُبديان قلقاً من الاندفاع أكثر في معركة انتزاع كلّ حلب المكلِفة جداً عسكرياً، ما يهدّد بإلحاق خسائر بالغة بقوى النخبة في الجيش السوري والتي من المفترض أن تشكّل أساس القوّة العسكرية لمرحلة ما بعد الحل، خصوصاً أنّ موقع رئيس الجمهورية والذي ستُسحب منه صلاحيات كثيرة لمصلحة الحكومة، سيبقى صاحب السلطة الأمنية والعسكرية.

وفي العراق أيضاً بشائر «طائف عراقي» على رغم الفرز الكبير على مستوى المناطق وتكريس ما يشبه الأقاليم الصافية، لكنّ المنطقة التي تدخل قاعات التفاوض والتسويات ستخضع لقواعد جديدة ترتكز على أدوار عريضة لكلّ مِن واشنطن وموسكو وطهران، ولو مِن زوايا مختلفة، لكنّها تؤسّس لخريطة جيو- سياسية جدّية في المنطقة ولا تؤذي تركيا التي تعيش مرحلة داخلية دقيقة يعود فيها الجيش رقماً داخل أروقة صناعة القرار التركي.

لكلّ ذلك جاء هولاند مسرعاً إلى المنطقة آملاً في إيجاد فسحة لبلاده التي خسرَت الرهان السوري، وانطلاقاً من هذا السعي حاولت باريس إعادة الإمساك ولو بطرف من ورقة حزب الله، لكنّ الدور الذي تولّته سابقاً والحصّة الاقتصادية التي نالتها وضَعاها في موقف ضعيف لرئيس يعاني من ضعفٍ مريع في شعبيته وهو على أبواب حملته الانتخابية في محاولة للفوز بتجديد ولايته.