Site icon IMLebanon

العدالة الانتقالية في ظل الاحتلال المقنّع وهيمنة السلاح غير الشرعي

 

 

عجز اللبنانيون رغم مرور نصف قرن عن بناء ذاكرة موحّدة

 

تمرّ الذكرى الخمسون لاندلاع الحرب اللبنانية في ظل واقع سياسي وأمني مأزوم، تتكرر فيه مشاهد الانهيار والعنف، وتتجدد فيه الخطابات الطائفية، وكأن الحرب لم تنتهِ فعلياً. لقد عجز اللبنانيون، رغم مرور نصف قرن، عن بناء ذاكرة موحّدة، أو صياغة مشروع وطني جامع، أو حتى اعتماد آلية فعالة لمواجهة إرث الحرب. فالمصالحة بقيت سطحية، ومفهوم “العدالة الانتقالية” لم يترجم فعلياً، بل جرى اختزاله بتسويات ظرفية، ومقايضات سياسية هشّة، حالت دون أي مراجعة حقيقية لأسباب الحرب ونتائجها.

 

من الطائف إلى الهيمنة: مصالحة مفقودة وعدالة مؤجّلة

 

رغم توقيع اتفاق الطائف في العام 1989، لم تتحقق المصالحة الوطنية بالمعنى الحقيقي. فقد أُقر الاتفاق في ظل الاحتلال السوري للبنان، فجاء مثقلاً بالتوازنات الإقليمية التي أفرغته من مضمونه الإصلاحي، وحوّلته إلى مجرد إطار لتقاسم السلطة بين زعماء الطوائف، لا خارطة طريق لبناء الدولة.

 

 

 

وفي ظل هيمنة دمشق المطلقة على القرار اللبناني منذ مطلع التسعينات، فُرض منطق “العفو مقابل الاستقرار”، وتم دفن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت خلال الحرب من دون محاسبة أو كشف للحقيقة. القرار السياسي اللبناني بات “صناعة سورية مئة بالمئة” بعد 1982، وأن دمشق تولّت إنتاج التوازنات السياسية وصياغة الاستقرار وفق أجندتها الخاصة.

 

 

دخول إيران: من الرعاية إلى السيطرة

 

لم تكن سوريا وحدها اللاعب الخارجي الأوحد، بل سرعان ما تحولت شراكتها مع إيران، منذ أواخر الثمانينات، إلى تبادل أدوار في السيطرة على لبنان. فقد برز “حزب الله” كأداة إيرانية فاعلة، ليس فقط في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، بل في الهيمنة على الداخل اللبناني، وفرض معادلات أمنية وسياسية تتجاوز مؤسسات الدولة.

 

 

 

تعمّق النفوذ الإيراني في لبنان بالتوازي مع انسحاب الجيش السوري عام 2005، وأصبح “حزب الله” الذراع التنفيذية لطهران في الداخل اللبناني وفي الإقليم. فبدلاً من تفكيك الميليشيات كما نص اتفاق الطائف وقرارا مجلس الأمن 1559 و1701، تمّت شرعنة وجود ميليشيا مسلّحة تفوق الدولة عدةً وعتاداً، وتتصرف كدولة داخل الدولة، بل وخارجها.

 

 

 

ويشير التقرير إلى أن طهران نجحت في “استنساخ نموذج حزب الله” في العراق وسوريا واليمن، وأن الطريق من طهران إلى بيروت بات معبّداً، ليس فقط بالسلاح والإمدادات، بل بالأيديولوجيا والنفوذ الطائفي.

 

 

 

ذاكرة مجتزأة وعدالة ممنوعة

 

في ظل هذا الواقع، يصبح من الصعب الحديث عن “عدالة انتقالية” أو مصالحة حقيقية. فمفهوم العدالة الانتقالية، الذي يقوم على الاعتراف، المحاسبة، وجبر الضرر، يتطلب استقلالاً قضائيّاً، وقراراً سياديّاً، وتوافقاً وطنيّاً، وهي كلها شروط مفقودة في لبنان اليوم.

 

 

 

لا يمكن الحديث عن “تنقية الذاكرة” في ظل استمرار خطاب التخوين والشيطنة، واستثمار مفردات الحرب في الصراع السياسي، وغياب أي إرادة فعلية لكتابة تاريخ الحرب بشكل موضوعي ووطني. فكل فريق لا يزال يكتب روايته الخاصة، ويعمّق بذلك الانقسام الوجداني، ويغذي ذاكرة انتقائية تُعيد إنتاج مشاعر الضحية لا المساءلة.

 

 

 

وبدل أن تكون الذكرى الخمسون مناسبة للمصارحة والمكاشفة، تتحوّل إلى موسم لاستعادة الحزازات الطائفية، وتهييج الغرائز، خدمة لمصالح خارجية ترى في لبنان ساحة صراع لا وطناً ذا سيادة.

 

 

 

الهيمنة الخارجية كعائق بنيوي للمصالحة

 

من أبرز العوائق البنيوية أمام المصالحة، استمرار التدخلات الخارجية، التي تحول دون قيام دولة القانون والمؤسسات. فالمصالحة تتطلب حصر السلاح بيد الدولة، واحترام قرارات مجلس الأمن، والابتعاد عن النزاعات الإقليمية، لكن الواقع اللبناني يشهد العكس تماماً.

 

 

 

ففي الجنوب، ما زال “حزب الله” يحاول الاستفراد بقرار الحرب والسلم، ويخرق القرار 1701 بشكل متكرر، فيما تحولت الحدود الشرقية إلى ممر مفتوح للأسلحة والمقاتلين وإلى احتمالية نشوء حرب طويلة الأمد مع السلطة الجديدة في سوريا. أما في السياسة، فيُفرَض التوافق الإقليمي بالقوة، وما رسخه المحور السوري – الإيراني هو أمر أخطر من مجرد تدخل عسكري أو تمويل سياسي، بل هو منهجية تفكيك للمجتمع اللبناني من داخله، عبر استدامة الانقسام الطائفي كأداة للحكم والسيطرة. في هذا السياق إنّ الطائفية ليست بنية اجتماعية فقط، بل هي سلاح ممنهج يُستخدم لمنع قيام دولة المواطنة، ولإفشال أي مشروع مصالحة حقيقي.

 

 

 

فكلما اقترب اللبنانيون من الحوار، أو طرحت مبادرات لبناء استراتيجية دفاعية وطنية، كان يتم إجهاضها من خلال التهديد بالأمن، أو عبر استدعاء الخارج، أو حتى عبر افتعال أزمات تذكّر الجميع بأن “ميزان القوى” لا يزال بيد من يملك السلاح.

 

 

 

خاتمة: إلى متى التأجيل؟

 

تُظهر الذكرى الخمسون للحرب اللبنانية أهمية كبرى لتبنّي مفهوم العدالة الانتقالية بمعناه الشامل والعميق. يجب أن تتم هذه العملية بشفافية ودقة، وأن تكون مبنية على إعادة نظر حقيقية في الماضي، مع بناء توافق مجتمعي واسع حول ضرورة الإصلاح المؤسسي والتاريخي. من دون ذلك، سيبقى لبنان في دائرة من الأزمات المتلاحقة، غير قادر على تحقيق الاستقرار الحقيقي والسلام الأهلي المستدام.