Site icon IMLebanon

الهجرة.. اندماج، عزلة أم صدام بين الثقافات؟

 

 

عادت مشكلة المهاجرين والنازحين واللاجئين إلى الواجهة، بعد أن فتحت بعض الدول الغربية أبوابها للمهاجرين الهاربين من الحرب الروسية الأوكرانية، وبعد التصريحات العنصرية التي نسبت إلى مسؤول في الاتحاد الأوروبي حول ضرورة استقبال اللاجئين من أوكرانيا، واعتباره أنّ الله عَوّض أوروبا عن الكائنات الشرق أوسطية والأوروبية ذوي الملامح الخشنة، «بلاجئين من لحمنا الأبيض ودمنا النقي تتناسب ألوانهم مع الهوية البصرية للشارع الأوروبي ولا تسبب اختناقاً للرجل الأبيض الأوروبي لدى رؤيتهم في محطات القطار».

في هذا المقال نحاول الإضاءة على مشكلة اندماج المهاجرين واللاجئين في المجتمعات المستقبِلة.

في ظل العَولَمة، ومع ازدياد أعداد المهاجرين واللاجئين والإنتقال الكثيف لليد العاملة بين الدول، بدأت تُطرَحُ أسئلة كبرى حول اندماج الوافدين بالمجتمعات المُضيفة، وحول مستقبل هذه المجتمعات في ظلّ أزمات وتحوّلات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية تعيشها. وجاءت الحرب الأوكرانية وما يرافقها من دمار وخراب ومآسي وتهجير ونزوح، وكذلك الأحداث المؤلمة، المحفورة في الذاكرة، التي كانت قد شهدتها بعض الدول الأوروبية خلال الأعوام الماضية، والتي سقط فيها عدد من الأبرياء، لتفتح نقاشاً واسعاً حول العلاقة بين المُهاجرين واللاجئين وسكان هذه الدول. هل على المهاجرين واللاجئين أن يتخلّوا عن عاداتهم وتقاليدهم وقيمهم وسلوكياتهم وأن يتأقلموا مع المجتمعات التي قصدوها، طوعاً أو كرهاً، للإقامة والعمل؟ أم يجب على هذه المجتمعات أن تُقدّم تنازلات جوهرية في إطار سعيها لاستيعاب ودمج هؤلاء المهاجرين واللاجئين في نظمها القِيميّة وفي عاداتها وتقاليدها؟ وما هي حدود التعايش بين ثقافات وقيم وعادات وتقاليد مختلفة إلى حدود التناقض بعض الأحيان؟

1 – إن ظاهرة الهجرة ليست جديدة وهي رافقت نشوء المجتمعات البشرية. وانتقال الأفراد والعائلات من مُجتمعٍ للعيش في مجتمع آخر كانت له دائماً أسبابه الأمنية والدينية والإقتصادية والسياسية وغير ذلك. وكل هجرة، أو لجوء، مهما كان نوعها تحتاج إلى أسباب طاردة تدفع الإنسان للتفكير في تغيير مكان سكنه والتخلي عن أهلٍ وقرابة وعلاقات عمل وعن استقرار نفسي وجسدي. كما تحتاج إلى أسباب جاذبة تتمثل بالأمان وبفُرصٍ أفضل للعمل والسكن والإقامة وإلى خدمات اجتماعية وصحية تُقدّمها المجتمعات المستقبِلة. وبقدر ما تتكوّن وتبرز حاجة المهاجرين للتخلي عن أوطانهم، هناك حاجة عند المجتمعات المستقبِلة للاستعانة بهؤلاء المهاجرين لنموها وتطورها. الحاجة متبادلة بين الطرفين وتقوم على مصالح ومكتسبات ولا يُمكن بتاتاً قراءتها من منظارٍ أخلاقي وتعاطفي وإنساني. فلو لم يكن المهاجرون بحاجة ماسة إلى مغادرة أوطانهم لما غادروها. ولو لم تكن المجتمعات التي تستقبل المُهاجرين بحاجة أيضاً إلى قوة عملهم وإلى قوة عمل أولادهم لما فتحت لهم أبوابها. وهذه المجتمعات تختار عادةً أنواعاً من المهاجرين لديهم كفاءات ومؤهلات وقدرات تُساهم في تطوير اقتصاداتها وصناعاتها ومختلف قطاعاتها الإنتاجية. إذاً، هي عملية تقوم على مصالح مُتبادَلة وليس على عطف وحب وسلوك إنساني.

2 – خلال السنوات الماضية، وبسبب الأزمات السياسية والاقتصادية والحروب التي عاشتها دول كثيرة خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، ارتفع عدد المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين بشكل ملحوظ واستقبلت دول كثيرة، وتحديداً بعض الدول الأوروبية، عشرات الآلاف منهم بسبب حاجاتها المتزايدة إلى اليد العاملة لتنشيط اقتصاداتها، بعد أن بدأت تعاني الركود نتيجة تراجع نسبة النمو الديموغرافي فيها. وفي هذا الإطار يجب التمييز بين ثلاث مجموعات من الدول: المجموعة الأولى، تضم الدول المعروفة تاريخياً بأنها أرض هجرة، وهي دول غنية تملك ثروات هائلة، كانت ولا زالت تسعى لاستقطاب المهاجرين بسبب حاجاتها الآنية والمستقبلية. هذه الدول تقدم إغراءات ومساعدات كثيرة للمهاجرين الجدد، وتؤمن لهم الجنسية والخدمات الاجتماعية وكل وسائل العيش الكريم. ومن أبرز هذه الدول الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأوستراليا والسويد وغيرها. المجموعة الثانية، تضم الدول الأوروبية الاستعمارية السابقة والتي كانت تسيطر على مناطق شاسعة في كل أرجاء الكرة الأرضية. هذه الدول قامت نهضتها وحققت غناها بفعل نهبها لثروات مستعمراتها، والتي شكلت في الوقت نفسه أسواقاً لتصريف المنتجات والسلع التي كانت تنتجها مصانعها. الهجرة من المستعمرات إلى الدول الأوروبية زادت بعدما تحررت هذه المستعمرات، ولكنها حملت معها أحقاداً وكراهية دفينة تجاه المستعمرين الذين مارسوا كل أنواع الظلم تجاه السكان الأصليين. المجموعة الثالثة، تضم دولاً شهدت تحولات عميقة بعد اكتشاف ثروات هائلة في أراضيها وكانت بحاجة ماسة إلى أعداد كبيرة من العاملين ومن أصحاب الإختصاصات والخبرات والشهادات العالية، وتعتبر دول الخليج العربي أبرز مثال على هذه المجموعة. هذه الدول استقبلت أفراداً وعائلات من كل دول العالم وأمّنت لهم الرواتب المرتفعة وكل وسائل الراحة، ولكنها امتنعت ولا تزال عن إعطائهم جنسيتها لأسباب ديموغرافية وسياسية ودينية. لذلك فإن العلاقات بين الوافدين (وليس المهاجرين) والمجتمعات المضيفة بقيت ظرفية ومصلحية ومحكومة بالحاجة المتبادلة. فهذه الدول لم تسعَ يوماً إلى توطين هؤلاء العاملين، إلا في حالات نادرة، والعاملون في هذه الدول يعرفون بعمق أن وجودهم مؤقت، مهما طالت مدته، وأن عليهم إما أن يعودوا إلى مواطنهم أو البحث عن دول أخرى يهاجرون إليها.

3 – إن المراقبة والدراسة الدقيقة لواقع المهاجرين في الدول المعروفة باستقبالها لأعداد كبيرة منهم تظهر مؤشرات تتميز بالخطورة على المَديين القريب والبعيد. فغالبية هذه الدول لم تضع سياسات واضحة وطويلة الأجل لاستقبال ودمج هؤلاء المهاجرين، مما أفرز ظواهر نافرة ومُقلقة. فالمهاجرون الذين يصلون إلى المجتمعات الجديدة يبحثون عن الأمان النفسي فيلجأون عند وصولهم، إلى حيث يُقيم مواطنوهم الذين سبقوهم من جهة، وإلى دور العبادة التابعة للمذاهب الدينية التي ينتمون إليها من جهة أخرى إذا وجدت. ففي هذين المكانين يشعر المهاجر بالإطمئنان والأمان خصوصاً في الفترة الأولى التي تعقب وصوله. بعض المهاجرين يقوم بتغيير أماكن سكنه ويبتعد إلى حدٍ ما عن دور العبادة ويذهب إلى أماكن وانتماءات أخرى، أما الآخرون فيتمسّكون بعنصري الأمان السالفَين ويتقوقعون على ذواتهم. هكذا نشأت في الكثير من مدن العالم الكبرى أحياء تحمل بَصمات المهاجرين وسِماتهم، بحيث تشعر وكأنك في بلدان المهاجرين الأصلية. وهذه الظاهرة موجودة بشكل ظاهر ونافر في أغلب المدن الأوروبية والأميركية والكندية والأوسترالية ولو بدرجات مختلفة. وقد أدّى ذلك إلى بروز ممارسات شاذة وسلوكيات وتقاليد نافرة لا علاقة لها بقوانين وأنظمة وقيم المجتمعات المضيفة، كما ارتفعت بعض الأصوات تطالب بتعديل القوانين النافذة والمُطَبّقة في هذه المجتمعات لتعترف بعادات وتقاليد المهاجرين في الزواج والطلاق والتربية والأكل وغير ذلك.

4 – المهاجر هو إنسان له ثقافته وحضارته وقِيمه وعاداته وتقاليده، وهو تربّى في بيئة لها خصائصها ومُميزاتها ومعتقداتها. وهو عندما يصل إلى المجتمعات المستقبِلة يحمل معه كل هذه المنظومة التي جُبلت بها شخصيته، ومن المستحيل الطلب منه التخلي عنها ونزعها عنه. كذلك فإن هذه المجتمعات لها عاداتها وتقاليدها وقيمها التي بُنيت وتبلورت على مَرِّ السنين ومن المستحيل أيضاً أن تتخلى عنها. فبعض هذه المبادىء والقيم كانت نتيجة ثورات عميقة كلّفت عشرات آلاف الضحايا. من هنا يُطرح السؤال: هل يجب على المهاجر أن يُقدّم التنازلات ليعيش في المجتمع الذي قصده بكامل وعيه وإرادته؟ أم على هذا المجتمع أن يحترم مشاعر المهاجرين وعاداتهم وتقاليدهم ليؤمّن لهم مناخات مطمئنة؟ وما هي حدود التنازلات المُتبادَلة من الفريقين وكيف يُمكن أن تُترجَم؟

من الطبيعي أن يُطبِّق المهاجرون القوانين والأنظمة، وأن يتقيّدوا بما تفرض هذه القوانين من سلوكيات في حياتهم اليومية. ومن المُمكن أن يتأقلموا مع بعض العادات والتقاليد التي يصادفونها في المجتمعات التي استقبلتهم. ولكن ماذا بالنسبة إلى المقدسات المرتبطة بالإنتماء الديني وبالأيمان؟ هل يمكن التخلي عنها أو إجراء تسويات وتنازلات بشأنها؟ من الصعب جداً وهنا جوهر المشكلة أو الأزمة. وإذا كانت المجتمعات التي تستقبل المهاجرين بأعداد كبيرة تُراهن على اندماج أبناء وأحفاد هؤلاء المهاجرين، بعد سنوات طويلة، وعلى تخلّيهم حتى عن تعصّبهم لمُقدّسات وشعائر دينية، فكيف يُمكن أن يتحقّق ذلك عندما يعيش هؤلاء في أحياء شبه مُغلَقة تُعاني الفقر والبطالة والحرمان وتفشّي المُخدّرات والأزمات الإجتماعية المختلفة.

وإذا كانت الأنظمة الرأسمالية وبعض قطاعاتها الإنتاجية تخطط عمداً لإبقاء مناطق إقامة وتجمّع المهاجرين مناطق فقيرة ومُهمَلة كي تبقى ينابيع ومصادر لتوفير اليد العاملة الرخيصة، فإنها لا تُدرك أنها بذلك تُحضّر قنابل موقوتة لا يعرف أحدٌ متى ستنفجر.

المجتمعات الغربية التي استقبلت أعداداً كبيرة من المهاجرين واللاجئين في العقود الخمسة الماضية تعيش مجموعة متداخلة من الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتشكّل أزمة المهاجرين أخطرها. وإذا لم تضع هذه المجتمعات خططاً عاجلة لمعالجة هذه الأزمة، على قاعدة التعددية والتنوع الثقافي، فإن الصدام واقعٌ لا محالة ويُمكن أن يذهب باتجاه حروب أهلية مُدمّرة، خصوصاً مع زيادة قوة ونفوذ الأحزاب اليمينية المتطرفة. فهل ستعي حكومات الدول الغربية خطورة الوضع أم ستنتظر الإنفجار الكبير لتبدأ المعالجة؟