لعلّ الصورة الأهم في سيرة الرئيس الثالث للجمهورية اللبنانية، اللواء فؤاد شهاب، هي تلك التي جمعته مع الرئيس الأول بشارة الخوري وهو يستلم منه راية الجيش اللبناني في أول آب 1945. صحيح أن لبنان نال استقلاله في 22 تشرين الثاني 1943 ولكن هذا الاستقلال لم يصبح ناجزًا إلا عندما صارت راية الجيش اللبناني وراية علم لبنان هي الوحيدة علامة السيادة اللبنانية، وإلا عندما صار الجيش القوة العسكرية الوحيدة التي تحفظ هذه السيادة وتضبط حدودها، وعندما صارت بندقيته وحدها السيدة على أرضه لا ينازعها أي سلاح آخر.
لم يتخرّج فؤاد شهاب ضابطًا من المدرسة الحربية في الفياضية. في 20 أيلول 1923، بعمر 21 عاما، تخرّج ضابطًا برتبة ملازم من الكلية الحربية في حمص، عندما كان لبنان وسوريا معًا تحت سلطة الإنتداب الفرنسي. زواجه عام 1926 من روز رينيه بواتيو، ابنة أحد الضباط الفرنسيين الذين كانوا يخدمون في لبنان، لم يأخذه إلى الولاء لسلطة الدولة المنتدَبة. بقيت جذوره اللبنانية هي التي تحكم علاقته بالدولة الجديدة التي صار القائد الأول لجيشها عندما سلّمه الرئيس بشارة الخوري الراية. تلك الصورة شكلت البوصلة التي وجّهت مسيرة الرجل الذي انتقل من قيادة الجيش إلى رئاسة الجمهورية وتحوّلت سيرته إلى مثال لكل من يريد الحديث عن أي مرحلة من تاريخ لبنان الحديث، مقارنة مع من تولّوا بعده قيادة الجيش ورئاسة الجمهورية. فقد كان بحق رجل الدولة الزاهد بالسلطة والعارف بنقاط ضعفها ومكامن قوّتها فأقدم حيث رأى أن من المفيد أن يقدم وأحجم عندما رأى أن الظروف تحتم عليه أن لا يقدم.
حدود الدولة والسيادة
من الصعب مقارنة فؤاد شهاب وعهده بغير عهود ورؤساء نظرًا لتبدّل الظروف المحلية والمعطيات والأشخاص، ولتغيّر المعادلات في منطقة الشرق الأوسط التي عاشت ولا تزال على وقع اهتزازات الزلازل الكثيرة والبراكين المتفجّرة. ولم يكن لبنان الدولة الجديدة في منأى عن هذه الزلازل التي عرّضته للانفجار أكثر من مرّة.
ربما كان قيام دولة إسرائيل هو الزلزال الأكبر الذي هز المنطقة ولا تزال هزاته الإرتدادية تهزها. على رغم الانتقادات الكثيرة التي أُطلقت في السابق، منذ أيام بشارة الخوري وفؤاد شهاب، ولا تزال تطلق اليوم حول دور الجيش اللبناني وحول عجزه عن مواجهة إسرائيل، وعلى رغم اتهامه بأنه كان جيشًا فئويًا يخدم المسيحيين، فإن هذا الجيش خاض عام 1948 المعركة الأبرز ضد الجيش الإسرائيلي في المالكية في شمال فلسطين، وكان الجيش العربي الوحيد الذي حقق انتصارات عليه على رغم محدودية عديده وتسليحه، حيث لم يكن قد تجاوز عمره الخمسة أعوام وعديده الخمسة آلاف جندي بأسلحة بسيطة وآليات غير مدرعة. كان قرار القتال هو الأهم وقرار المواجهة هو الخيار الطبيعي. منذ ذلك التاريخ صار الجيش هو الذي يحمي الحدود والأمن في الداخل بعد قيام دولة إسرائيل في 15 أيار 1948، وبعد توقيع اتفاقية الهدنة بين لبنان والدولة الجديدة في 23 آذار 1949 في رأس الناقورة بوساطة الأمم المتحدة لإنهاء الأعمال العدائية. تضمّنت الاتفاقية وقفًا لإطلاق النار، وتحديد خط الهدنة الذي يتوافق مع الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين، بالإضافة إلى تحديد مناطق منزوعة السلاح، وتشكيل لجنة للهدنة المشتركة. كما نصت على تبادل الأسرى وإزالة الألغام.
ضابط في خدمة الدولة
قائد الجيش فؤاد شهاب الذي وقع أحد ضباطه، المقدم توفيق سالم، مع الرائد جوزاف حرب، على هذه الاتفاقية واجه من موقعه الاهتزازات الأولى في تركيبة السلطة اللبنانية عندما وقع الخيار عليه ليكون رئيسًا للحكومة التي أشرفت على انتخاب كميل شمعون رئيسًا للجمهورية في 23 أيلول 1952، بعد إجبار الرئيس بشارة الخوري على الاستقالة. كان الخوري الرئيس الأول للجمهورية الذي تحمّل مسؤولية مخالفة الدستور والتمديد لنفسه ستة أعوام في الرئاسة. لم يكن فؤاد شهاب جنديًا في خدمة العهد. تسلم الأمانة ثم سلمها وبقي في قيادة الجيش. حتى أن بشارة الخوري أحجم عن استخدام الجيش لكي يحمي عهده ضد المعارضة وتنازل طوعًا عن الرئاسة.
تجربة فؤاد شهاب مع المعارضة تكرّرت مع أحداث 1958. على رغم أن الرئيس كميل شمعون اختار المواجهة، وعلى رغم أن المعارضة استخدمت السلاح الذي زوّدتها به المخابرات السورية بعد إعلان قيام دولة الوحدة مع مصر برئاسة جمال عبد الناصر وكوّنت ميليشيات ورسمت خطوط تماس، إلا أن شهاب لم يلبِّ رغبة الرئيس شمعون في زجّ الجيش في الدفاع عن العهد نظرًا لما اعتبره انقسامًا داخليًا يمكن أن يؤدّي إلى انقسام في الجيش. وإذا كان وقع الخيار عليه ليترأّس الحكومة الانتقالية في نهاية عهد بشارة الخوري فقد وقع الخيار عليه ليكون الرئيس الذي سيُنتخب ليحلّ محلّ الرئيس شمعون.
انهيار ما بناه شهاب
لم يصل شهاب إلى الرئاسة بقوته الذاتية بل بالتوافق الذي حصل بين الولايات المتحدة الأميركية وجمال عبد الناصر لإنهاء الثورة المسلحة وعهد شمعون معًا بعد إرسال قوات المارينز إلى لبنان. كان على الرئيس الجديد أن يعمل تحت سقف هذه التسوية وأن يوازن بين مصلحة عبد الناصر في لبنان ومصلحة لبنان الدولية وسيادته. من هنا تعطى الأهمية التاريخية للقاء الذي جمعه مع عبد الناصر في الخيمة على الحدود اللبنانية السورية في 25 آذار 1959.
عرف فؤاد شهاب كيف يعيد التوازن إلى السلطة والدولة على قاعدة لا غالب ولا مغلوب. وحتى عندما رجحت كفة المعارضة في بداية عهده، اختار أن يعيد التوازن بعد الثورة المضادة التي كادت أن تهز عهده في بدايته. وعرف شهاب أن عليه أن يتجاوز الحدود الطائفية نحو بناء دولة قوية وإدارة جيدة ونظيفة في المؤسسات، وأن يعتمد على مساعدين في كل المجالات يتجاوزون حدود طوائفهم نحو طائفة واحدة لبنانية تجمعهم مع الرئيس. ربما كانت هذه هي الصفة التي يمكن أن تلتصق بما عرف بعد ذلك بـ “الشهابية” أو “النهج”. ولكن على رغم ذلك لم يحكم شهاب بارتياح.
محاولة الانقلاب العسكري التي نفذها ضده الحزب “السوري الإجتماعي” بمساعدة عدد من الضباط والسياسيين آخر عام 1961، أدّت إلى عسكرة عهده وإطلاق يد المخابرات. لم تكن هذه قاعدته الأساسية فقط. إلى جانب عدد من الضباط الذين تولَّوا مسؤولية الأمن والسياسة مباشرة، كان أركان حكمه مدنيين من كل الطوائف وكان معارضوه أيضًا من كل الطوائف. هذا الحكم القوي الذي منع الانقسام الداخلي الطائفي وضبط المخيمات الفلسطينية لم يكن مقنعًا لفؤاد شهاب حتى يمدّد لنفسه. لم يقبل أن يقع في الخطأ الذي وقع فيه بشارة الخوري. ولكنه أفسح المجال أمام اختيار من سيخلفه مسمّيًا شارل حلو. فانتخب في 18 آب 1964. بعد عام واحد بدأت بنادق جديدة تنافس بندقية الجيش اللبناني مع انطلاق العمليات المسلحة الفلسطينية من لبنان ومع تحويل المخيمات إلى معسكرات. منذ ذلك التاريخ لا يزال لبنان يبحث عن استعادة سيادته العسكرية والأمنية على كامل أراضيه.
استعادة مشروع الدولة
كان من المفترض أن يكون عيد استقلال لبنان في 22 تشرين الثاني 2025 المناسبة الأبرز لكي يظهر العهد الجديد بعد انتخاب العماد جوزاف عون رئيسًا للجمهورية أهمية هذا الاستقلال ويستعيد صورة لبنان 1943 وصورة الراية التي تسلّمها قائد الجيش من رئيس الجمهورية، وهي إشارة إلى أن لا سلاح في لبنان إلّا سلاح الجيش اللبناني. ولكن تمسك “حزب الله” بسلاحه ورفض تسليمه إلى الجيش والسلطة يعطلان الاستقلال، ويحولان دون إعطاء المعنى الذي يجب أن تأخذه هذه المناسبة. صحيح أن العهود السابقة، منذ عهد شارل حلو، احتفلت بمناسبة الاستقلال ولكن الاحتفالات كانت تأتي ناقصة. ربما حان الوقت لكي يستعيد الاستقلال هويته الحقيقية حتى يكون للاحتفال به معنى. المسألة تتعلّق بقدرة الحكم على تنفيذ قرارات حصرية السلاح والاستفادة من التحولات الدولية الداعمة له في هذا المسار.
انتقل لبنان من مشروع دولة حديثة تكوّنت بعد الاستقلال خصوصًا على عهدي كميل شمعون وفؤاد شهاب، إلى واقع دولة منهارة أو شبه منهارة ناقصة السيادة تبحث دائمًا عن استقرار لا يأتي. فهل يستعيد العهد الجديد الراية والدولة ومشروع الدولة؟
