Site icon IMLebanon

الفارق بين حريّة الفرد واستقلال الأُمّة

“إنّ مسار المجتمع سيتغيّر فقط عن طريق تغيير الأفكار، هذه الأفكار يطرحها المتنورون ومن بعدها يتبعها السياسيون”. (فون هايك)

في كتاباته حول علاقة الحرية بالشمولية يقول “فردريك فون هايك”، وهو من أهم دعاة التحررية في القرن العشرين “تُستخدم كلمة الحرية بشكل واسع في الدول الشمولية، كما تُستخدم في أي مكان آخر، والحق هو أنّه أينما تعرّضت الحرية للتدمير، فإنّ ذلك يتمّ بإسم حرية موعودة للجماهير… إنّ الحرية الجمعية ليست حرية أفراد المجتمع، والحرية لا يمكن إلّا أن تكون للفرد أولًا ومن خلالها للمجتمع، أما العكس فلا يصح… لا يمكن للسلطة أن تضمن الحرّية للناس، ولا الحاكم كفرد، فالقانون وحده هو الضامن للحرّية”.

 

عيد الاستقلال هو يوم تحتفل فيه الشعوب والدول بأسطورة التحرّر أو استعادة الحرّية من محتل أجنبي أو وصاية خارجية، ويهدف هذا العيد إلى تذكير المواطنين بقيمة الحرّية والعرفان للآباء المؤسسين للوطن بما أنجزوه.

 

الاستقلال هو حالة جمعية ولا علاقة له بالفرد، وليس بالضرورة أن تنعكس قضية الاستقلال منفعة للمواطن الفرد، لا بل على العكس، فباستثناء بعض الدول النادرة التي تحوّلت بعد استقلالها ديموقراطيات تحترم حرية الفرد، نرى في وضوح أنّ معظم مواطني الدول التي استقلت في النصف الثاني من القرن العشرين صاروا يترحّمون على زمن الاستعمار الجميل، بعد أن اختبروا الحكم الوطني والحكّام الوطنيين. فبعض المستعمرين كانوا يتبعون القوانين، أما مع الحكام الوطنيين فلا قانون لهم، وإن وُجد فهم فوقه، وإن طُبّق فاستنسابياً. صحيج أنّ معظم المستعمرين فرضوا ثقافاتهم ولغتهم على المستعمرات، لكن هذه الثقافات في غالب الحالات كانت وسائل تواصل شديدة الإيجابية على الفرد والمجتمع في الدول المُستعمَرة.

 

أما في ظل الحكّام الوطنيين، فقد تمّ تدمير الثقافة الاستعمارية في شكل مضحك وركيك وأحيانًا مأسوي، ولم تحلّ محلها الثقافات التراثية، هذا إن وجدت، لأنّ الحاكم الوطني قام باختصار التراث والتاريخ والثقافة الوطنية، بتمجيد ذاته وامتداح انتصاراته. لقد تحولت الثقافة الوطنية إلى فن التملّق والنفاق والتخلّف والفساد، وأصبحت الحكمة الوطنية الجامعة “الإيد إللي ما فيك تعضّها، بوسها وادع عليها بالكسر”. المرعب هو أنّ هذه الثقافة أصبحت أيضًا ثقافة عائلية، يعني أنّ ربّ العائلة يربّي أبناءه عليها لتترسخ في عقولهم كحقيقة ثابتة تحت شعار الحفاظ على الذات.

 

أما لناحية استغلال الأجنبي المستعمِر للثروات الوطنية، فبعد الاستقلال انقسمت الدول المستقلة في عالمنا إلى قسمين. القسم الأول دخل في شراكة مع المستعمِر أو مع شركاته، أو مع أطراف أخرى لتقاسم الثروات الوطنية. بقيت هذه الثروات في يد قلة من دون أن يستفيد منها الوطن أو المواطن، إلّا هامشياً، ظرفياً أو ريعياً، ولم تنعكس إنماء حقيقيًا بطبيعة إنتاجية.

 

أما القسم الثاني، فقد أخذ عقول الناس بشعار “التأميم”، أي استعادة مقدّرات الثروة الوطنية إلى الدولة والشعب، وكانت النتيجة إما تدميراً عشوائياً للثروة من خلال سوء الإدارة والفساد، أو من خلال هدر نتاج الثروة في مشاريع دونكيشوتية، فيها من المغامرات العسكرية والسياسية والاقتصادية ما لا يمكن أن يخطر في بال إيان فليمينغ مبدع شخصية جيمس بوند.

في النهاية، فحتى مَن استهلّ بدعة حكمه الوطني بالتأميم وإعادة الثروة الوطنية للشعب، عاد وابتلع الثروات هو وعائلته وأقرباؤه وزبانيته، من خلال حسابات سرية، في شراكة مستجدة مع المستعمِرين السابقين أو آخرين جدد.

 

أما عن العسكر الأجنبي، مقارنة بالعسكر الوطني، فمن الواجب سؤال الضحايا إن كانت “العلقة” مع الأجنبي أفضل أو أسوأ من العلقة مع الوطني. أما القتلى، فلا أعتقد أنّهم يعرفون الفارق بين الموت على يد عسكري أجنبي أو على يد عسكري وطني. لكن، بعد الموت، فإنّ ضحايا الأجنبي يصبحون شهداء ورموزًا وطنية ومدار فخر واعتزاز للعائلة والأبناء، أما ضحايا الموت الوطني، فهم يتحولون أرقاماً بلا أسماء ويصبحون عملاء وخونة ومرتدين وأعداء الثورة وإرهابيين وتكفيريين… يعني بالمحصلة، فإنّ ظلم عسكر الأجنبي قد يكون على الأقل له فوائد جانبية.

 

لا شك في أنّ ذكرى الاستقلال اليوم، وخصوصاً بالنسبة الينا نحن أشباه الأحياء في لبنان، ليست بالضرورة يومًا للفرح أو الفخر أو الاعتزاز، فهناك كثيرون من الذين ندموا على ذلك اليوم لألف سبب وسبب. هناك كيانات يستعمرها أجنبي ترفض اليوم الانفصال عن “المستعمِر” بإرادة حرة وواعية، وهناك عشرات، لا بل مئات الملايين من أبناء الدول المستقلة الذين هجروا حكمهم الوطني وهاجروا ليحكمهم الأجنبي المستعمَر مجدداً.

 

بعضهم ناضل ليعود للمستعمَر وسقط شهيدًا في مراكب التهريب التي غرقت، أو في مغامرات عبر الحدود انتهت بالسجن أو الموت، وما نراه اليوم على حدود الاتحاد الأوروبي بين روسيا البيضاء وبولندا، ما هو إلّا مثلاً واقعياً عمّا سردته. إنّ منطق الاستقلال عند المواطن الفرد مبني فقط على حريته وكرامته الفردية، وطالما أنّه لم يحصل عليها في بلده المستقل، فإنّ الاستقلال الوطني يصبح بلا معنى للفرد، مهما بالغ الحكّام في استعراض الفرق العسكرية والصواريخ الباليستية في الاحتفالات السنوية المملة بالخطابات الفارغة، ومهما استغرق المدرّسون في تلقين التلامذة حب الوطن، ومهما تنافس البعض في رفع صوتهم لترداد السلام الوطني في مناسبة لا علاقة لها بالوطن، فالأصل هو حرية الفرد. أما الحديث عن حرية الوطن والأمة فهو خدعة لتغطية غياب حرّية المواطن.

 

ماذا يعني للناس؟ في الواقع، لم يتمكن الأكاديميون حتى الآن من تأكيد ما يأتي أولاً في حاجات النمو في الأمم ما بين البنية الفوقية، أي السلطة والمؤسسات الحاكمة والقوانين، والبنية التحتية، أي أفراد الأمّة ومبادراتهم الفردية ومساحة الحرية والثقة التي يتمتعون بها في منظوماتهم الوطنية. لكن المؤكّد هو أنّ التفاعل بين البنيتين الفوقية والتحتية هو الذي يؤدي إلى نجاح أو فشل معظم المجتمعات والأمم.

 

في كتاب “كيف تفشل الأمم” للأكاديميين دارون أسموغلو وجيمس روبنسون، دراسة معمّقة تضمنت عوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية وجغرافية، في محاولة لاستنتاج أسباب نجاح الامم أو فشلها في النمو الإقتصادي. في المحصلة يعتقد الكاتبان أنّ التزاوج بين سلطات ترعى الحرّيات وتدعم المبادرات الفردية وتحمي الملكيات الخاصة والأدبية، مع اقتناع المواطن بأنّه قادر على التأثير في حياته من خلال الجد والعمل والدراسة، والأهم قدرته على تغيير الحاكم، هي الصفات الملازمة للأمم الناجحة في عالمنا الحالي.

 

والنمو هنا لا يعني فقط الغنى، فهناك كثير من الأمم الغنية، مع أنّها لا تزال في أدنى مستويات النمو على مستوى الفرد. وهذا يعني أنّ البلدان التي يعتمد غناها على الموارد الطبيعية دون غيرها من وسائل الإنتاج، ولا تمتلك بنية سياسية واجتماعية تفسح المجال لكل مواطنيها بالمشاركة في الإنتاج وصنع القرار، لا يمكن وضعها أبدًا في خانة الأمم الناجحة والمستقرة على المدى الطويل، مهما تمكنت من بناء استقرارها بالكرم والريعية.

 

على عكس ما يظن أصدقاؤنا اليساريون، فإنّ سقوط القواعد الإقتصادية القديمة المبنية على الإقطاع، لم تأتِ على أيديهم، فمن أسقط الإقطاع كان البورجوازية التي حرّرت قواعد الإنتاج وأخرجتها من أيدي الملوك والملاكين، ووضعتها بسرعة هائلة في مجالات التنافس بين الناس، فواكبتها الثورة الصناعية التي أنتجت رأسماليتها، وأنهت بالتالي نمطية السلطات القائمة على تحالف الإقطاع مع المقدس. يعني ذلك أنّ التحول الكبير في طبيعة السلطات في الغرب، كان نتاج تغيير نمط قواعد الارتزاق، واستقلال لقمة العيش عن الحاكم والأقلية المحيطة به.

 

الواقع هو أنّ الإقطاع السياسي الطائفي هو العنصر الأهم في إدارة الإنتخابات والتحكّم بنتائجها، لأنّه يتحكّم بمصدر رزق الناس. هذا طبعًا دون إغفال عوامل الحرب الأهلية والإحتلالات، ومنها الحالي الإيراني، إلى ما شاء الله من تأثيرات إقليمية…

 

لكن، رغم ذلك كله، فإنّ واقع الإقتصاد يبقى العامل الأهم، ومن الواضح أنّ لبنان، رغم الحرّية الإقتصادية النظرية كلها، ما زال بعيدًا عن تسهيل سبل المبادرات الفردية، وما زالت الإلتزامات والمعاملات والقروض خاضعة للإستنسابية السياسية والمذهبية، وما زال الفساد الإداري مستشريًا ومحميًا اجتماعيًا وسياسيًا ومذهبيًا.

 

في ذكرى الاستقلال، لا بدّ من التأكيد أنّ معضلة شراكة الإقطاع السياسي والمذهبي هي التي تسببت بسلسلة الحروب التي عشناها، وهي السبب الرئيس في تدهور الإقتصاد، ولا يمكن الخروج من واقعنا إلّا بتحرير السوق من سيطرة القلة المهيمنة، بالتوازي مع إصلاحات واسعة في البنية الفوقية لتتناسب مع الإقتصاد الحر، حتى نتمكن من إرساء ديموقراطية حقيقية وتحقيق النمو المرجو.

 

هناك استحقاق مقبل يمكن من خلاله التغيير، وحتى وإن كان مشكوكاً بأمر حدوثه، وقد يكون فات الأوان لإصلاح بنية متهالكة من دون “تدمير إبداعي”، لكننا ما زلنا ننتظر بروز قوى تجتمع على برنامج واحد وشخصيات محدّدة، لحمل مشروع كهذا، حتى وإن كان السعي يائسًا!