الرهان الصعب: أثمان العودة للحظيرة العربية وسط صراع إقليمي محتدم!
أطراف المحور الإيراني استبقت تداعيات زيارة عون للرياض.. وأسئلة عن التفاهمات المسبقة
اختلال الموازين الداخلية منذ الإطاحة بحكومة الرئيس سعد الحريري في كانون الثاني 2011، وما أعقبها من تداعيات بلغت ذروتها في خضم احتدام الصراع بين المملكة العربية السعودية وإيران مع خروج لبنان عن الإجماع العربي الذي جسّدته قرارات الجامعة العربية ومؤتمر منظمة الدول الإسلامية، وضعت لبنان في شبه عزلة كاملة عن محيطه العربي وفي حال انفصام عن عروبته، ما آل إلى محاصرته وفرض أنماط عدّة من الحظر عليه بشكل علني وغير علني، أدى إلى تراجع موقع لبنان واقتصاده، وإلى ازدياد الانقسام السياسي وارتداد ذلك شللاً في المؤسسات الدستورية تجلّى بشغور رئاسي وعجز حكومي وغياب الانتظام العام في البلاد وتلاشي الدولة.
على أن التسوية التي أفضت إلى الإتيان بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وبالرئيس سعد الحريري رئيساً للحكومة وتشكيل حكومة وحدة وطنية, شملت غالبية المكوّنات السياسية على اختلاف مشاربها وانتماءاتها, شكّلت بداية لمسار مختلف عن المسار الذي حكم الفترة السابقة، إلا أن الإطلالة الخارجية الأولى لرئيس الجمهورية التي أرادها أن تكون من المملكة العربية السعودية معطوفة على خطاب القسم الذي افتتح به عهده بتأكيده جملة ثوابت منها الالتزام بوثيقة الوفاق الوطني التي جسّدها «اتفاق الطائف»، والابتعاد عن الصراعات الخارجية والالتزام باحترام ميثاق جامعة الدول العربية، ولا سيما المادة الثامنة التي تتعهد من خلالها الدول المشاركة في الجامعة بعدم القيام بعمل يرمي إلى تغيير نظام دولة أخرى عضو فيها، وإعلانه اعتماد سياسة خارجية مستقلة تقوم على مصلحة لبنان العليا واحترام القانون الدولي، أعطت زخماً، وفق مراقبين، لتعزيز هذا المسار الذي يُعيد لبنان مجدداً إلى موقعه الطبيعي من دون أن يعني ذلك عدم الأخذ في الاعتبار الظروف غير الطبيعية التي يعيشها والمتغيّرات الطارئة عليه.
الأكيد أن زيارة عون إلى الرياض، ومنها إلى الدوحة، وما تضمنته من إزالة الالتباسات التي حكمت العلاقة الرسمية بين البلدين سابقاً، وما حمله معه رئيس الدولة من رؤية وتصورات لطبيعة العلاقة المتوخاة، بما فيها التعهد بعدم الخروج على الإجماع العربي، كسرت جدار الجليد بين دول الخليج العربي ولبنان وفتحت أبواب عودة الخليجيين إليه، سواء على المستوى السياحي أو الاستثماري، وهذا يُعدّ إنجازاً حقيقياً بعد قرارات الحظر التي اتخذتها تلك الدول حيال زيارة رعاياها وانعكاس ذلك عليها، إذ من شأن إعلان خادم الحرمين الشريفين وأمير دولة قطر عن عودة قريبة لرعايا البلدين، وتالياً الرعايا الخليجيين، أن يعكس ارتياحاً لما سمعته القيادتان السعودية والقطرية من تطمينات لحال الاستقرار الأمني الداخلي، ما يُشكّل عنواناً لعودة الثقة مجدداً بلبنان.
على أن تلك التطمينات، والتي قد تكون ارتفعت إلى مستوى التعهدات، تحتاج إلى ضمانات لترجمتها واقعاً ملموساً، اعتبر بالأمس وزير الداخلية نهاد المشنوق أنها تُشكّل نوعاً من ضمانات قدّمها رئيس الجمهورية شخصياً من موقعه، وهو الذي يُدرك وحده ما هو قادر على فعله وعلى ضمانه، إذ أنه سوف يُسأل عمّا تعهد به، وهو الأمر الذي يضع لبنان تحت المراقبة لتبيان ما إذا كانت الأفعال تتناسب مع الأقوال.
ولعل السؤال الذي يطرحه المراقبون يكمن في ما إذا كانت المناخات الإيجابية التي خرجت بها جولة رئيس الجمهورية لجهة ما حملته من تطمينات وضمانات يمكن ترجمتها فعلياً في وقت لا تزال حدة الصراع الإقليمي على أوجها، ولا سيما بين المملكة العربية السعودية وإيران، وإلى أي مدى يمكن لـ «حزب الله» - الذي حوّل أمينه العام لبنان منبراً دائماً لشتم السعودية وحكامها - مراعاة الإيجابيات التي أنتجتها الزيارة والنجاح في عودة مد الجسور مجدداً بين الدول الخليجية, بوصفها مفتاحاً وعنواناً للثقة, وبين لبنان، وهل إن ثمة توافقات مسبقة بين رئيس الجمهورية ونصر الله على تحييد استخدام لبنان منطلقاً للحملات السياسية الإعلامية بالنيابة عن المحور الإيراني؟ وتالياً ماذا سيكون عليه موقف الرئيس إذا لم تُظهر القوى السياسية اللبنانية المنخرطة في هذا المحور نمطاً جديداً من التعاطي مع دول الخليج؟
العارفون في كيفية أداء وتفكير «حزب الله» يُدركون أن نصر الله سعى باكراً إلى امتصاص تداعيات زيارة عون للسعودية حين تحدث عن أن للرئيس ملء الحرية بتحديد أولوياته من حيث الزيارات التي يريد القيام بها إلى الخارج، وهم يرون في رصدهم لمجريات الزيارة أنها جاءت دون السقف الذي كانوا يتوقعونه، ليس فقط لجهة أن الجيل الجديد في القيادة السعودية كان غائباً عن اللقاءات لارتباطات خاصة، والمقصود هنا ولي العهد الأمير محمد بن نايف وولي ولي العهد محمد بن سلمان، بل إن المحصلة الفعلية للزيارة يمكن وصفها بأنها أعادت الروح إلى العلاقات اللبنانية – السعودية وإلى المصالح المشتركة، لكنها لم تصل إلى إعلان واضح بعودة إحياء الهبة للجيش اللبناني، كما كان البعض يُراهن على ذلك، وإن كانوا يعتبرون أن للزيارة انعكاسات إيجابية على اللبنانيين المقيمين في الخليج، ومن ضمنهم أولئك الذين يمكن اعتبارهم مقرّبين من «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» الذين سبق أن اتخذت إجراءات بحق بعضهم.
على أن مسألة الهبة العسكرية التي، وفق متابعين لمجرياتها، جمّدت لأسباب سياسية، تحتاج لإعادة تحريرها مباحثات معمّقة وفترة من ترسيخ الثقة والتوافق حول آليات تنفيذها والنتائج المترتبة عن ذلك، وإن كان البعض يعتبر أن خطوة كهذه لن تكون من دون أثمان سياسية، ولا بمعزل عن الظروف الداخلية السعودية، إلا أن المهم في هذا الإطار أن إمكان الجلوس إلى طاولة المحادثات في شأن الهبة العسكرية أو المساعدة الأمنية أو المشاريع المشتركة أو غيرها من العناوين الأساسية بات ممكناً بعدما أعادت الزيارة وصل ما انقطع، وإن كان لا يزال باكراً الذهاب بعيداً في التفاؤل!